تلميذ في محاضرة الدكتور مصطفى الفقي

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الثلاثاء 8 نوفمبر 2022 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

بدعوة كريمة من الدكتور أحمد غنيم، رئيس متحف الحضارة، حضرت يوم 22 أكتوبر فى إحدى قاعات المتحف، الذى زرته لأول مرة وأبهرتنى فخامته رغم أنه لم يتح لى التجول فى أرجائه، محاضرة للمفكر الكبير والكاتب والمتحدث المفوه ذو العلم الغزير والخبرة الواسعة الدكتور مصطفى الفقى. كان عنوان المحاضرة «أصداء الحضارات التى تعاقبت على مصر».
كدأب الدكتور مصطفى الفقى أمتعنا بحديثه الجزل وأفادنا بعلمه الغزير، ولعل النقطة المهمة التى أوضحها فى كلمته هى أن الحضارة المصرية هى وحدة متصلة تعاقبت فيها حقب: فرعونية ويونانية رومانية وقبطية وعربية إسلامية وانصهرت جميعها فى بوتقة مصر وامتزجت لتكون حضارة ثرية فعالة لها زخم تطور مع الزمان تشكله وتتشكل معه.
• • •
وفى تقديرى أنه من المهم جدا التركيز على هذه الحقيقة؛ لأن جزءا كبيرا من مشكلة مصر الداخلية ناجمة عن وهم الشوفينية الحضارية بين من يصر أننا فراعنة ولسنا عربا، ومن يصر على أننا مسلمون ولسنا عربا وآخرون يصرون على أنهم أقباط وليسوا عربا وآخرون يتوهمون أننا أبناء حضارة متوسطية نسبة إلى البحر المتوسط، وكان منهم قامات ثقافية كبيرة منهم سلامة موسى وأحمد لطفى السيد وحسين فوزى، الذين رغم علمهم وثقافتهم تصوروا أن أوروبا يمكن أن تحتضنا ولو طال عمرهم لرأوا الاتحاد الأوروبى يرفض عضوية تركيا ورأوا الفرق فى معاملة اللاجئين العرب من سوريا والعراق وبين معاملة اللاجئين الأوكرانيين الأوروبيين.
لعل الشوفينية الحضارية ليست آفة أصابت مصر وحدها لكنها آفة أصابت العرب أجمعين ما بين لبنانيين يدعون أنهم فينيقيون، وتونسيين انتماؤهم قرطاجى، وعراقيين انتماؤهم بابلى غير الأكراد والأمازيج وانقسامات سنية شيعية ومارونية درزية. فى مقابل كل ذلك شوفينية قومية عربية ترفض كل ذلك وترى فيه تهديدا للوحدة والقومية العربية. قد بلغت هذه الشوفينية ذروتها وأوجها فى منتصف خمسينيات القرن الماضى عندما ثارت أصوات معارضة لنصب تمثال رمسيس الثانى فى الميدان الذى صار يعرف باسمه أنه رمز للفرعونية فى وقت تتوجه فيه الدولة نحو العروبة!. زاد الأمر عن الحد بعد إعلان الوحدة مع سوريا عام 1958 عندما حذف اسم مصر واسم سوريا واستبدالهما بالإقليم الشمالى والإقليم الجنوبى بالجمهورية العربية المتحدة.
الفرعونية والبابلية والسومرية والفينيقية والقرطاجية والأمازيجية لا تتعارض مع العروبة لكنها روافد تصب فى نهر عظيم تزيده قوة وعنفوانا وعمقا فى التاريخ تزيده رونقا ورسوخا.
لدينا النموذج الأوروبى للدراسة وليس للتقليد، فالأمور الحضارية لا تقلد لكنها تدرس وتحلل؛ استطاعت أوروبا أن تخرج من وهم الشوفينية الحضارية بين إغريقى ولاتينى وأنجلو ساكسونى وحرمانى قوطى Gothic ونوردى Nordic فى تاريخ الفايكنج وتخلق نمطا أوروبيا موحدا رغم الصراعات والحروب التى سالت فيها الدماء أنهارا وبحارا من حرب المائة عام إلى حرب الثلاثين عاما إلى الحرب النابليونية إلى الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية، حاول خلالها الطغاة توحيد القارة بالسيف من شارلمان إلى لويس الرابع عشر إلى نابليون إلى هتلر. وأخيرا توصلت القارة إلى صيغة الاتحاد الأوروبى فتوحدت القارة على أساس المصلحة المشتركة لبناء المستقبل ومعيار الانتماء لها. هذا الالتزام بالرزنامة الأوروبية من ديمقراطية وحقوق إنسان وقبول الآخر والتداول السلمى للسلطة وحرية الرأى ووضعت مدونة السلوك المقبول أوروبيا ونحت الدين والعرق جانبا، ولعل وصول رجل من أصل هندى إلى رئاسة وزراء بريطانيا له مدلول كبير فى هذا الصدد.
• • •
الموضوع الثانى فى المحاضرة والذى جذبنى بشدة كان حديث الدكتور مصطفى الفقى عن الصدام بين الفكر النخبوى والفكر الشعبوى، وهى ظاهرة كان لها أكبر الأثر على تاريخ مصر الحديث.. لعل النخبة التى قادت مصر فى بداية عهدها الحديث منذ عصر محمد على وكان نواتها خريجى البعثات التى أوفدها إلى أوروبا واستمرارها فى عهد إسماعيل من بعده، وكانت هذه النخبة نواة النهضة الحضارية الحديثة فى مصر فى مجالات الطب والهندسة والرى والتعليم ومن أبرز أعضائها رفاعة الطهطاوى ومحمود الفلكى وعلى مبارك، وكانت نخبة قائمة على أساس العلم والكفاءة امتد نورها ليشمل البلد كله. تغير الوضع مع عصر إسماعيل الذى جعل العرق أساس النخبة خاصة فى الجيش، فأوكل قيادة الجيش المصرى فى حملة الحبشة إلى مغامر دنماركى بلا كفاءة ونصب ضابطا أمريكيا حوكم وطرد من الخدمة فى الولايات المتحدة لتقصيره فى الحرب الأهلية ووضع الأوروبيين فى مكانة الصدارة فى مصر، وأصبحت النخبة تعيش فى برج عاجى بعيدا عن الشعب ولا تفيده، وكان ذلك سببا لثورة عرابى التى انقلب خلالها البندول إلى الشعب واعتمد عرابى على القوى الشعبوية التى شحذها عبدالله النديم بأشعاره وكتاباته فاختلت المعادلة. لعل عرابى كان معذورا نتيجة لموقف الخديوى الذى لم يترك له من يحمى به سوى الشعب دون نصح من نخبة واعية.
لعل الدور المضىء الآخر للنخبة المصرية كان فى ثورة 1919 التى استطاعت النخبة الواعية بقيادة سعد زغلول على تعبئة التيار الشعبوى بجمع التوقيعات لتوكيل الوفد، وكانت المرة الأولى فى تاريخ مصر التى تسعى فيها النخبة لأن تستمد سلطتها من الشعب.
استمرت قيادة الوفد للشعب وحقق نجاحات كبيرة أبرزها إعلان استقلال مصر عام 1922 إلا أن انشقاق النخبة بعد وفاة سعد بالخلافات بين النحاس ومكرم عبيد وقبول النحاس رئاسة الوزراء تحت أسنة الإنجليز هشت، هذه النخبة التى انغلقت على نفسها وانعزلت عن الشعب.
ثم قامت ثورة يوليو 1952 وتكونت نخبة جديدة كان قوامها فى البداية ضباط الجيش، لكنها طعمت نفسها بعناصر مدنية أثبتت كفاءة عالية مثل المهندس عزيز صدقى ومحمد صدقى سليمان والاقتصادى حسن عباس زكى والسياسى فتحى رضوان والصحفى محمد حسنين هيكل والشيخ أحمد حسن الباقورى؛ واستطاعت هذه النخبة أن تقود التيار الشعبوى إلى إنجازات لا يمكن إنكارها أبرزها تحقيق الجلاء التام وتأميم قناة السويس وإقامة قاعدة صناعية والعدالة الاجتماعية، إلا أن نكسة عام 1967 نالت من مكانة النخبة التى تلاشت بعد وفاة عبدالناصر، واعتمد السادات على نخبة جديدة أساسها المال والمصالح الشخصية وانغلقت على نفسها وانعزلت عن التيار الشعبوى واستمرت بعد وفاة السادات الذى لا يمكن لأحد أن يسلبه فضل انتصار أكتوبر وتحرير سيناء. لكن بندوله اتجه بعيدا عن التيار الشعبوى مع النخبة المنغلقة على نفسها حتى قيام ثورة 25 يناير التى ظهر فيها الانقسام والمواجه بين الفكر النخبوى والفكر الشعبوى. بدأت الثورة بنخبة من المثاليين والمخلصين باعتصامات سلمية شارك فيها مهنيون وفنانون وإعلاميون وقضاة ورجال قانون وطلبة وأساتذة ودبلوماسيون يمثلون الشعب المصرى فى أبهى صورة، إلا أن الأمر تطور باستعانة كل طرف بقوى شعبوية غير واعية وغير مسئولة كان أبرزها اقتحام ميدان التحرير فى موقعة الجمل ثم دخلت عناصر أخرى بدأت أعمال شغب كانت أفدحها إحراق المجمع العلمى وإحراق المحاكم وأقسام الشرطة حتى شاعت الفوضى والتخريب، وبعد أن كان الحديث عن قلة مندسة صار عن كثرة منفلتة. الدرس المستفاد من التاريخ يشير إلى ضرورة التناغم بين الفكر النخبوى والفكر الشعبوى وأن النخبة الفعالة الواعية هى التى تكون منفتحة على الشعب ومدركة لتطلعاته وتحظى بالمصداقية والاحترام حتى تكون قادرة على القيادة، والشعب الواعى يختار النخبة الواعية ويتفاعل معها ويحمى نفسه من المندسين عليه ليكون هناك تكامل بين الفكر الشعبوى والفكر النخبوى.
محاضرة قيمة من أستاذ جليل.. شكرا للأستاذ الدكتور مصطفى الفقى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved