«سنوهى» قصة عمرها 4000 سنة!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
(1)
«عُد إلى مصر، حتى ترى الأرض التى نشأتَ فيها، وقبِّل الأرض عند البوابة الثنائية العظمى، والتحق بالبلاط. لقد هرمت الآن، وقلَّ نشاطك، فتذكَّر الموت ويوم الدفن. سيكون لك هنا موكب جنازة فى يوم دفنك، وسيكون تابوتك من الذهب، ورأسه من اللازورد، ستكون السماء فوقك، وستوضع فوق زحافة، وستجرك الثيران، ويسير المغنون أمامك، وستؤدَّى لك رقصة الـ«موو» عند باب قبرك، وسيُقرأ لك ما تتطلبه مائدتك من قرابين، وستُذبح لك الذبائح أمام مذابحك، وستكون أعمدة قبرك من الحجر الأبيض بين مقابر النبلاء والأبناء الملكيين. ينبغى ألا تموت غريبًا، فى بلد غريب خارج وطنك، ولن يدفنك البدو، ولن يضعوك داخل جلد شاة، ففكِّر فيما يحدث لجثتك، وارجع إلى مصر، فهذا ليس أوان الطَّواف فى الأرض، فَعُد واحذر المرض» (من رسالة الملك سنوسرت الأول إلى سنوهى، فى بردية عمرها 4000 سنة).
(2)
من مباهج وفوائد الاحتفالات القومية الكبرى، وبخاصة ما يتصل بالحضارة المصرية القديمة والتاريخ المصرى القديم، إنعاش الذاكرة بدررها ولآلئها الحضارية والإنسانية التى سُجِّلت على جدران المعابد وأوراق البردى. وصلتنا منذ ما يقرب من 4000 سنة نصوص فريدة مدوَّنة على جدران المقابر وعلى أوراق البردى، من أشهرها وأقدمها بردية المصرى المغترب «سنوهى»، التى أتصور أنها أقدم قصة وصلتنا عن الغربة عن الأوطان، والارتحال بين البلدان، والحنين إلى الأوطان، والعودة إلى رحابها، والاستقرار بين أحضانها بعد رحلة طويلة من الارتحال والنفى الاختيارى أو «غربتك فى بلاد الله»، كما نقول الآن! كان اكتشاف هذا النص وترجمته من اللغة المصرية القديمة إلى اللغات الحديثة حدثًا جللًا وملهمًا، وفتح الباب واسعًا لكى تكون هذه القصة الرائعة المثيرة مصدر إلهام للكتّاب والأدباء المعاصرين، بل وحتى لصنّاع السينما العالميين فى هوليوود الذين قدَّموا واحدًا من إنتاجاتهم الكبيرة الضخمة آنذاك مستلهمين قصة «سنوهى».
فى مضمار الكتابة والأدب، ظهرت أعمال أدبية حديثة تستلهم قصة «سنوهى»، وتصوغ منها أحداثًا ووقائع، وتخلط المتخيَّل بما وصلنا من أحداثها طبقًا للبردية المصرية القديمة؛ فظهرت رواية الفنلندى مايكا وولتارى التى تُرجمت إلى العربية وصدرت بعنوان «المصرى سِنُوحى» بتقديم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، فيما يزيد على ثمانمائة صفحة من القطع الكبير! وفى مصر، صاغ الرائد الجغرافى العظيم والمترجم المقتدر والأديب المطبوع محمد عوض محمد قصته البديعة «سنوحى»، التى صدرت للمرة الأولى فى ديسمبر من عام 1943 فى سلسلة (اقرأ).
إلى أى حد بلغ جمال «الأصل» المستلهَم منه هذه الأعمال الحديثة كلها؟ وإلى أى حد كانت القصة كما سجلها صاحبها «سنوهى» نفسه على جدران مقبرته، وكما دُوِّنت فى أوراق البردى، تحمل من الجمال والجلال والمشاعر والحنين الجارف إلى الوطن ما غاب ويغيب عن السادة الذين يضعون مناهج ومقررات التعليم فى مصر طوال القرن الماضى كله!
(3)
تعود القصة المصرية القديمة - فى أصلها الأول - إلى بردية تُسمَّى بردية «سنوهى» أو «مغامرة الأمير سنوهى»، وهى تعود إلى عصر الدولة الوسطى (أوائل الأسرة الثانية عشرة حوالى سنة 2000 ق.م). وقد ذاع صيتها ولقيت رواجًا عظيمًا فى مصر القديمة حتى إنها ظلت تُنسخ وتُقرأ على طلاب المدارس المصرية القديمة لنحو 500 سنة! وشخصياتها المرجعية المعروفة، وفقًا للمصادر التاريخية الموثقة، هى: الملك «أمنمحات الأول»، وابنه وولى عهده الذى سيتولى الحكم من بعده الملك «سنوسرت»، وبطل القصة وراويها وسارد أحداثها وموثق وقائعها الطبيب المصرى «سنوهى».
وهذه البردية ما زالت معروضة إلى الآن فى متحف برلين بألمانيا، وأحداثها تُقص علينا على لسان الأمير سنوهى، الذى يروى قصة هروبه من مصر إلى بلاد سوريا، وعودته مرة أخرى إلى مصر «الوطن» فى نهاية العمر حتى يُدفن فى ترابها.
ومن اللافت الاحتفاء الكبير جدًّا بهذه القصة وتقديرها تقديرًا خاصًّا فى أوساط كبار المؤرخين والأثريين المعنيين بمصر القديمة ودراستها والكشف عن أسرارها. سنجد - على سبيل المثال لا الحصر - احتفاء العلامة الأثرى الكبير سير ألن جاردنر، الذى قام بتوثيق القصة، وترجمها من اللغة المصرية القديمة، وقدَّم لنا وللعالم كله هذا النص الإنسانى البديع، واصفًا إياها بقوله: «إنها - أى قصة سنوهى - تُعَدُّ من روائع القطع التى تدل على المهارة الأدبية، ورقة التعبير عن الأحاسيس الإنسانية».
وفى الكتاب الرائع للأثرى الكبير جاستون ماسبيرو «حكايات شعبية فرعونية»، يُفرد لها فصلًا كاملًا بعنوان (مغامرات سنوهى) من صفحة 149 إلى صفحة 177 من الطبعة الصادرة عن هيئة الكتاب سنة 2008، بترجمة الدكتورة فاطمة عبدالله محمود، ومراجعة وتقديم الدكتور محمود ماهر طه.
وفى الكتاب الذى لا غنى عنه لكل باحث أو مهتم بروائع وكنوز قدماء المصريين، أقصد كتاب «الأدب المصرى القديم» بجزأيه لعميد الأثريين المصريين، الراحل الدكتور سليم حسن، يقدم أفضل عرض للقصة مستقصيًا مصادرها القديمة، وملخصًا لها، ومحللًا لأحداثها، ثم يورد النص الكامل للقصة كما وُثِّقت فى المصادر القديمة.