القوميسير والبلياتشو

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الثلاثاء 8 ديسمبر 2015 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

يصعب على أى بلد تحمل الهزل فى مواضع الجد عندما يكون مصيره على المحك ومستقبله بين قوسين كبيرين.
بأى حساب لم تثبت الدولة على قواعد صلبة حتى الآن ولا تأكد التحول إلى أوضاع طبيعية وفق الشرعية الدستورية.
رغم الانتهاء الرسمى من استحقاقات خريطة المستقبل إلا أنه يصعب الادعاء أننا تجاوزنا المرحلة الانتقالية أو أسسنا بأى قدر دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
لا يتوقع أحد بشىء من الجدية أننا مقبلون على تجربة برلمانية تدرك صلاحياتها الدستورية غير المسبوقة فى الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية وتلتزم الحد الأدنى من المسئولية الوطنية فى التشريع وفق مصالح أغلب مواطنيها.
لقد هندست الانتخابات النيابية بطريقة أوصلتنا إلى طريق مسدود بأشباح الماضى ومخاوف التفلت.
هذه مأساة كاملة لبلد قام بثورتين للانتقال إلى دولة العدل والحرية التى تتوازن سلطاتها وفق قواعد دستورية تحترم.
نحن بعيدون تماما عن أية رهانات كبرى أو أحلام خامرت التضحيات الهائلة التى بذلت.
فى التناقض بين الأحلام الكبرى والكوابيس الماثلة مشروع اضطرابات محتملة تأخذ من الدولة استقرارها فى لحظة حرب ضارية مع الإرهاب.
تثبيت الدولة قضية حقيقية لا يصح التشكيك فيها أو النيل منها.
غير أن السؤال الجوهرى الذى لا يصح تجاهله: أى دولة نريد.. وأى دعم يتطلبه تثبيتها؟
لا توجد أية إجابة على هذا السؤال فى المشاورات الجارية لتشكيل أغلبية برلمانية باسم «ائتلاف دعم الدولة».
الاسم نفسه يناقض طبيعة الدور الدستورى للبرلمان.
فهو سلطة رئيسية من سلطات الدولة له مهامه وأدواره التى تفترض الرقابة على السلطة التنفيذية لا دعمها مجانيا أيا ما كانت أوجه الخلل فى أدائها العام.
تلخيص الدولة فى السلطة التنفيذية خطيئة سياسية.
وتلخيص السلطة التنفيذية فى الرئيس خطيئة سياسية أخرى.
النظام السياسى الحديث أقرب إلى محرك السيارة لكنه ليس السيارة نفسها.
هناك فارق بين كتلة موالاة برلمانية تلتزم ببرنامج واضح يجمعها مع الحكومة وبين إلغاء كل الفواصل التنفيذية والتشريعية.
باسم «دعم الرئيس» قد تفلت بعض التصرفات من كل قيد سياسى أو أخلاقى وتبدو بعض الفقرات البرلمانية كأنها مشاهد مقتطعة من أفعال «البلياتشو» فى سيرك ريفى.
من غير المستبعد أن يستغرق التحرش بالحكومة العمل البرلمانى إلى حدود الابتزاز.
عندما تغيب البرامج يطغى ما هو شخصى.
وعندما تتراجع الكفاءات يضطرب الأداء.
الاضطراب يسحب من البرلمان قدرته على الوفاء بالحد الأدنى من مهامه.
ربما يحاول بعض النواب بقدر ما يستطيعون أن يؤدوا واجبهم البرلمانى غير أن نوابا آخرين قد يقوضون كل محاولة بتفلتات بعضها يدعو للسخرية والرثاء.
هناك معضلة مستعصية فى العلاقة المتوقعة بين الحكومة والبرلمان فالطرفان بلا صلاحيات دستورية حقيقية ولا أسس مشتركة من تصورات وبرامج تجمعهما.
الحكومة بيروقراطية تماما ورئيسها «شريف إسماعيل» لا صلة له بالسياسة.
بحسب شهادات زملائه فى مجلس الوزراء عندما كان وزيرا للبترول فإنه لم يتحدث مرة واحدة فى أى شأن خارج تخصصه المباشر.
هو مهندس بترول على درجة عالية من الكفاءة لكنه بلا خبرة سياسية تؤهله على أى نحو لمخاطبة البرلمان والرد على استجواباته.
بقدر آخر تغيب الخبرات السياسية عن أغلبية أعضاء البرلمان.
هذا الغياب السياسى سوف يحكم لغة الحوار بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
كلتاهما سوف تتهم الأخرى بأنها لا تدعم الرئيس دون أن تكون حيثيات الاتهام مفهومة ومقنعة.
فى تفلت لغة الحوار من غير المستبعد أن تخضع الحكومة من وقت لآخر لابتزاز نيابى وسوء استخدام للأدوات الدستورية فى طلبات الإحاطة والاستجوابات وسحب الثقة.
لكل شىء قواعده.
عندما تغيب القواعد فالفوضى مرجحة.
بحكم نصوص الدستور فإن تداول السلطة والتعددية الحزبية أساس نظام الحكم، غير أن الوضع الذى عليه الأحزاب الممثلة فى البرلمان يثير شكوكا عميقة فى أن تكون أرقاما صعبة داخله.
الكلام المتواتر عن ضم الكتل الحزبية إلى ائتلاف «دعم الدولة» باستثناء حزب «النور» يلغى أية معارضة مدنية.
هناك فارق بين الائتلاف والحزب.
إلغاء الفواصل ينسف الفكرة الحزبية من أساسها ويشطب أية هوية تبحث عن شىء من الاستقلال.
من غير المعقول فى أى دولة شبه محترمة أن توقع الكتل الحزبية على وثيقة ائتلاف كأنها عقد إذعان تقرر بموجبه فض التزامها التنظيمى الداخلى.
رغم أن بعض الأحزاب لا تستحق أن توصف بهذا الاسم فهى تجمعات مصالح مؤقتة اقتضتها الانتخابات إلا أن هناك أحزابا تستحق أن تخوض تجربة البرلمان على نحو جدى.
الأمر نفسه ينصرف إلى بعض المستقلين الذين يتمتعون باستقامة سياسية.
إلغاء الفواصل يأخذ من البرلمان سمعته حيث تطغى أعمال السيرك على أية قواعد حديثة.
يصعب أن يحترم أحد فى العالم برلمانا يهرول نوابه بلا منطق إلى حيث تقف السلطة أيا ما كانت هذه السلطة.
بحكم الدستور الحكومة شريك كامل فى صنع السياسات العامة مع رئيس الجمهورية غير أن الحقائق تقول إنها سوف تكون سكرتارية جديدة.
لن يكون هناك فى قصر لاظوغلى قوميسيرا سياسيا مفوضا بصلاحيات تليق بالأدوار الدستورية لرئيس الحكومة ولا تحت القبة قوميسيرا مفوضا بالإدارة السياسية للبرلمان.
فى الحالتين التوجيهات سوف تصدر من مكان آخر دون شراكة فى سياسة أو قرار.
فى غياب التفويض الدستورى مشروع تصدع حكومى مبكر وتمدد لأدوار «البلياتشو» ببنية البرلمان بأكثر من كل طاقة احتمال.
بكلام آخر هذا تهديد مباشر للدولة فى مستقبلها يزعزع الثقة فيها بأكثر من رصاصات الإرهاب.
لا يمكن للوضع الحالى أن يستقر أو أن يستمر ما لم تكن هناك خطة عاجلة تعترف بالأزمة أولا وتعمل على سد ثغراتها وتصويب مسارها ثانيا.
إذا لم يكن فى كل موقع قوميسيرا لديه صلاحياته وأدواره وتفويضاته فبنية الدولة هشة واحتمالات تقويضها غير مستبعدة.
وإذا لم يكن هناك حوارا جديا يقوده الرئيس مع مكونات المجتمع وقواه الحية وفق أجندة تعرف ماذا تريد فإن التدهور سوف يأخذ طريقه من أعلى جبل الإحباط إلى أسفله بأسرع من كل توقع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved