باب الوداع

كمال رمزي
كمال رمزي

آخر تحديث: الثلاثاء 8 ديسمبر 2015 - 1:05 ص بتوقيت القاهرة

عقب مشاهدتى لهذا الفيلم الفريد، الذى لا يشبه إلا نفسه، تذكرت أحد دروس أستاذى، محمد مندور، يوم حدثنا منذ نصف القرن عن أستاذه فى السوربون، لانسون، حين علق على بحث كتبه مندور عن إحدى قصص جوستاف فلوبير.. قال له: لقد قمت بتشريح الفراشة بسكين جزار بدلا من مبضع الجراح.. اترك العمل الفنى يتسلل إلى نفسك، استقبله بإحساسك، ولا تهجم عليه، مدججا بأفكار مسبقة.
هذه النصيحة الثمينة، يليق تطبيقها على «باب الوداع»، المفعم بنوع من الحزن النبيل، الأقرب إلى أجواء الأحلام، بدرجات الأبيض والأسود، المنساب بنعومة وهدوء المعتمد على لقطات طويلة، الخالى من الحوار، لا يحكى حكاية بقدر ما يعبر عن حالة شجن تتعلق بالفراق، الرحيل، الغياب، الزمن الذى يغير كل مكونات الوجود.. فى المشهد الافتتاحى، تتابع كاميرا الموهوب، زكى عرفى، مسيرة الأم المتشحة بالسواد، سلوى خطاب، بجانبها ابنها الطفل، بين المقابر. الطريق متعرج، المدافن متآكلة الجدران والشواهد، نباتات الصبار ذابلة، أسماء وكلمات باهتة، مكتوبة على الأبواب.
طوال الفيلم، المتسم بأسلوبه الخاص، لن تشعر بنقلات أو تقطيعات، فالمشاهد تكاد تنبع من بعضها بعضا، برغم تغير مكونات الصورة، فاللقطة التالية، نتابع الطفل، مقتربا من باب غرفة والدته المغلق، يفتحه، والدته تلتفت له، تسرح شعرها الطويل وهى جالسة أمام المرآة، تلتفت نحوه، لا يمكن أن تعرف بالضبط، هل ما يراه الطفل أمرا حقيقيا، أم أنه مجرد ذكريات مختلطة فى ذاكرة الطفل الذى سيطالعنا شابا فى المشهد اللاحق.. هنا، الأم، بأداء القديرة سلوى خطاب، تنظر لابنها نظرة تحمل أكثر من معنى، تمتزج فيها المحبة مع الأسى، تحتضنه بعينين يشوبهما الانزاعج، لا يتبادلان كلمة واحدة.. حضور الأم قوى، عميق، لكن وضع لمبة الجاز، على التسريحة، بينما رأينا مفاتيح الكهرباء، يوحى بأن بطلنا، يخلط بين مكونات الصور، كما يحدث فى الأحلام.. ولا يفوت مؤلف الموسيقى المصاحبة، راجح داود، أن يتمهل فى دخولها المشهد، فتبدو وكأنها تدعم الإحساس بأنها نابعة من أحلام أو ذكريات الطفل.
«باب الوداع»، ليس حكاية تروى، ولكنه تأملات، وحالة تعاش، لذا فإن الملخص المتوافر فى كتالوجات المهرجانات، التى وقع مؤلف الفيلم الموهوب، كريم حنفى، فى أسرها، ضللت المتلقى إلى حد بعيد.. مكتوب «تدور أحداث الفيلم حول شاب نشأ بين والدته وجدته، بعد أن هجر الأب الأم مباشرة بعد ولادته، تعزله أمه عن العالم الخارجى، خوفا من أن يتركها كما فعل أبوه. ولكن الشاب يحلم باكتشاف العالم. فهل ستقف أمه بينه وبين أحلامه؟».
الفيلم، أوسع وأعمق من هذه الحدوتة، ذلك أنه من الأعمال البصرية، يعتمد على الصورة، بتكويناتها، الشديدة الثراء، التى تدفع المتابع للتأمل والتفكير.. أحيانا، تذوب الشموع أمام صور لنساء أقرب للقديسات الحزينات، ووجه الأم، سلوى خطاب، لا يفارقه الإحساس بدرجة ما من الأسى، كما لو أنها تهم بالفراق، أو أن الوداع محتم، مكتوب عليها.. وهى، فى عدة مشاهد ثرية، تحنو على والدتها، بأداء متفهم، سهل ممتنع، من ممثلة أراها لأول مرة، اسمها آمال عبدالهادى، المتشبثة بالحياة برغم شيخوختها. تدخن سيجارة بينما صوت أسمهان يتهادى إلى أسماعها.. وها هى، ابنتها، فى مشهد حميمى، تصبغ شعرها الأبيض باللون الأسود، كما لو أنهما يريدان، الإمساك بتلابيب الزمن، الذى من المستحيل إيقافه.
الطفل، يصبح شابا، بأداء صاحب المستقبل الواعد، أحمد مجدى، الوديع، الصامت، الذى يتأمل العالم، من وراء زجاج نافذة، أو يتابع والدته، وهى تبتعد فى شارع يخلو من المارة، مما يعنى أن الفيلم، بخصوصيته، يرى فى كل لحظة، وداعا.
سأشاهد هذا الفيلم الجميل، المؤثر، مرة ثانية، وثالثة، وأعترف، أنى طوال معايشته وبعدها، أكاد أسمع أصداء مطلع أغنية أعشقها: ليه يا بنفسج، بتبهج، وانت زهر حزين!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved