الأبعاد العالمية لأزمة الحكم

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 8 ديسمبر 2019 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

احتجاجات المواطنين فى أنحاء مختلفة من العالم تستدعى البحث عن أساليب مبتكرة للحكم تتجاوب مع مطالب المواطنين لحياة كريمة، ولكن احتمالات الخروج من أزمة الحكم الحالية تبدو بعيدة المنال فى الوقت الحاضر، فمن واشنطن ولندن وباريس إلى سانتياجو شيلى ولاباز بوليفيا إلى الجزائر وبيروت وبغداد, وانتهاء باليمن وسوريا تتعدد الأزمات التى تواجه الجماعة الحاكمة من محاولة لإقالة رئيس الدولة، إلى اعتراض حاشد على سياسات تمس أصحاب المعاشات فى دول متقدمة وإلى رفض كامل للطبقة السياسية, وأخيرا عجز عن توفير الأمن للمواطنين لأقسام كبيرة منهم فى دول عربية. الأسباب المباشرة لهذه الأزمات تتباين من حالة لأخرى، ولكن الذى يجمع بينها جميعا هو أنها كلها تعكس أزمة عميقة لأسلوب الحكم، ومع أن الجماعة الحاكمة فى كل هذه الدول هى جماعة منتخبة، حتى ولو كانت انتخابات مشكوكا فى نزاهتها فى سوريا مثلا إلا أن المؤكد أن أسلوب الحكم فى كل هذه البلدان أيا كان نظامها السياسى لا يلقى رضا المواطنين.
لا تفلت الدول التى ابتعدت عن قواعد الديمقراطية الليبرالية من إرهاصات لامتداد هذه الأزمة إليها، فقد خرجت تظاهرات فى إيران وسبقتها تظاهرات فى موسكو تحتج على أسلوب الحكم وسياساته فى كل من الدولتين. وباستثناء إقليمى هونج كونج وسينشيانك، لا تنقل لنا أدوات الإعلام أنباء احتجاجات واسعة بين الصينيَين الاثنين. ولكن يصعب أن نعرف مواقف المواطنين من نظام الحكم فى بلاد يخضع المواطنون فيها لقيود شديدة على حريات الرأى والتعبير ولا يسمح بأى مساحة للمعارضة السلمية.
وتتفاوت تجليات أزمة أسلوب الحكم بين هذه الدول، فهى تتراوح بين محاولة إقالة رئيس الدولة قبل انتهاء مدته فى الولايات المتحدة، إلى مظاهرات واسعة تعلن رفضها لعجز الحكومة المنتخبة فى فرنسا عن التعاطف مع شكاوى ومشاعر أقسام واسعة من المواطنين، وإلى إخفاق الأحزاب السياسية فى الاتفاق على تشكيل حكومة بسبب النتائج غير الحاسمة للانتخابات فى إسرائيل التى تجعل من المحتم دعوة المواطنين للانتخاب مرة ثالثة فى أقل من عام، إلى تكرار الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة لكشف كذب ادعاء الجماعة الحاكمة بإنجازها الاقتصادى فى شيلى، وشجب العنصرية الضيقة للطبقات المسيطرة فى بوليفيا، وأخيرا انتفاضات شعبية تعلن ضيق المواطنين فى الجزائر والعراق ولبنان من احتكار السلطة السياسية فى أيدى جماعات فاسدة وعاجزة عن تحقيق إنجاز فى الوفاء بالحاجات الأساسية لمواطنيها، وأخيرا استسلام المواطنين لفشل حكومتهم فى توفير الأمن لهم فى مواجهة جماعات مسلحة اغتصبت السلطة مما لم يجعل لهم بديلا عن قبول الاستبداد سوى الهجرة الواسعة من الوطن فى اليمن وسوريا.
***
أزمة أسلوب الحكم هذه لفتت أنظار المراقبين وعلماء السياسة الذين أفردوا لها دراسات عديدة، ومع أنهم انتهوا إلى أن هذه الأزمة تتخذ أبعادا صارخة فى دول الجنوب تصل إلى حد مشاركة الجماعات المسلحة فى السلطة وتحول الجماعة الحاكمة إلى مجموعة من اللصوص تستمرئ استغلال موارد الدولة لحسابها مع إفقار أغلبية المواطنين، كما هو الحال فى بعض الدول الإفريقية بل تشمل أبعاد الأزمة تعايش بل وتعاون الجماعة الحاكمة مع عصابات الجريمة المنظمة، كما فى باكستان وجواتيمالا، إلا أن هؤلاء العلماء لم يستبعدوا وجود ملامح لهذه الأزمة فى الدول المتقدمة ذاتها، وناقشوا معالم تلك الأزمة باعتبارها أوجه عجز فى الديمقراطية الليبرالية ذاتها.
لاحظوا أن هذه الأزمة هى فى معظم حالاتها أزمة لأسلوب الحكم وليست أزمة للدولة، فباستثناء سوريا واليمن وربما العراق، لا يوجد تهديد جاد لبقاء الدولة فى أى من الحالات الأخرى. طبعا قد يؤدى نجاح حزب المحافظين فى الانتخابات النيابية وتمكنه من تنفيذ وعد زعيمه بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى إلى تفضيل الأسكتلنديين الاستقلال عن المملكة المتحدة، ولكن القضية الأساسية هنا ليست البقاء فى إطار دولة واحدة من عدمه ولكن هى السياسة التى تحقق التوافق بين جميع الأقاليم التى تضمها.
ما هى أسباب أزمة أسلوب الحكم هذه التى أصبحت ظاهرة عالمية فى جميع نظم الحكم، بما فى ذلك تلك التى تقوم على قواعد الديمقراطية الليبرالية. يمكن طرح مستويين من تحليل أسباب هذه الأزمة، أولهما واضح وهو البعد عن قواعد ما يسمى بالحكم الرشيد، وثانيهما أكثر عمقا يسعى لتفسير توقيت ظهور هذه الأزمة حتى ولو كان البعد عن قواعد الحكم الرشيد ظاهرة مزمنة تعود إلى عقود بل وقرون طويلة فى بعض البلدان.

البعد عن الحكم الرشيد
قواعد الحكم الرشيد عديدة، وقد سبق شرحها فى مقالات سابقة، ولذلك يكتفى هذا المقال بالتركيز على أكثرها ارتباطا بأزمة أسلوب الحكم التى ظهرت جلية للعيان فى السنوات الأخيرة، وهى بصفة رئيسية اتباع أسلوب عقلانى فى صنع القرار، والالتزام بحكم القانون، والسعى لتحقيق توافق عام على توجهات السياسات الحكومية، والسعى لتحقيق قدر من التكافؤ بين المغارم والمغانم، أو أعباء وفوائد السياسات العامة، وأخيرا الالتزام بالشفافية فى اتخاذ القرارات المصيرية، وسيكتفى هذا المقال بسبب ضيق المساحة بالاقتصار على أمثلة من دولة أو أخرى.
من الواضح مثلا أن قرار حزب المحافظين بالدعوة للخروج من الاتحاد الأوروبى لم يكن قرارا عقلانيا، فخسائر بريطانيا نتيجة هذا الخروج من الناحية الاقتصادية تكاد تكون موضع إجماع بين رجال الأعمال والاقتصاديين البريطانيين، ومع ذلك سعى زعيم اتجاه الخروج من الاتحاد الأوروبى داخل حزب المحافظين وأيدته أحزاب أخرى إلى كسب الأصوات بممالأة مشاعر وطنية متطرفة، وعداء للأجانب وميل لمن عانوا من تدهور أوضاعهم المعيشية بين المواطنين البريطانيين إلى إلقاء اللوم على الاتحاد الأوروبى كسبب فى ذلك، وذلك دون أن يكون لديه أى خطط لمواجهة تكلفة الخروج من الاتحاد أو حتى تصور لكيفية الخروج منه.
كما ضربت القيادتان البريطانية فى ظل حكم حزب المحافظين والإدارة الأمريكية مثلين على تجاهل حكم القانون. رفضت المحاكم البريطانية قرار رئيس الوزراء البريطانى بوقف جلسات مجلس العموم فى الأسابيع الحاسمة التى كانت تسبق الموعد الذى كان قد حدده لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، كما سعى الرئيس الأمريكى إلى استغلال نفوذ الولايات المتحدة على أوكرانيا لدعوة حكومتها لاتخاذ خطوة تفضح معاملات نجل جو بايدن المتوقع أن يكون منافسا له فى الانتخابات الرئاسية القادمة، ويحظر القانون الأمريكى الاستعانة بدول أجنبية للتأثير على الانتخابات فى الولايات المتحدة.
ومن ناحية ثالثة لا يبدو أن هناك توافقا عاما على توجهات السياسات الداخلية أو الخارجية داخل النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة سواء فى ظل إدارة الرئيس أوباما الديمقراطى أو إدارة ترامب الجمهورى، ويتعدى ذلك مجرد الخلاف بين حزب يدير السلطة التنفيذية وحزب معارض، وهو ما يحول دون أى استمرارية فى توجهات السياسات، وكان ذلك واضحا بالنسبة للموقف من مشروع التأمين الصحى وموقف الولايات المتحدة من قضايا الشرق الأوسط، وأضيف إلى ذلك فى ظل إدارة دونالد ترامب الموقف من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. ويشعر المواطنون فى بوليفيا بأنه ليس هناك توافق عام حول حق المواطنين الأصليين من الهنود فى أن يشاركوا فى حكم دولتهم مثل من ينتمون إلى الأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية.
ومن ناحية رابعة يشعر المواطنون مثل العمال وأنصار السترات الصفراء فى فرنسا وكذلك المواطنون فى شيلى ولبنان بأن كلا من الفوائد الناجمة عن السياسات الاقتصادية وكذلك أعبائها لا تتوزع بالتكافؤ بين جميع المواطنين، فالأغلبية لا تحصل على فوائد تذكر وتتحمل عبء الضرائب بينما تستفيد أقلية محدودة نسبيا من الفوائد ولا تتحمل إلا القدر اليسير من الأعباء.
وأخيرا تفتقد عملية صنع السياسات قدرا كبيرا من الشفافية فى كل هذه الدول، ويكفى أن نشير إلى قرارات الرئيس الأمريكى بالنسبة لتواجد قوات بلاده فى الشرق الأوسط، وانسحابها المفاجئ من شمال سوريا.

توقيت ظهور أزمة الحكم
هناك أربعة أسباب رئيسية مترابطة تسهم فى تفسير تزامن كل هذه الاحتجاجات فى السنوات الأخيرة سواء كانت من خلال العملية الانتخابية أو من خلال الحركات الاجتماعية التى لجأت إلى التظاهر للتعبير عن مطالبها.
السبب الأول هو ارتفاع مستويات التعليم فى كل الدول التى جرت فيها هذه التطورات التى كشفت عن أزمة أسلوب الحكم. كل هذه الدول تتمتع بمستويات من التنمية الإنسانية تتراوح بين المتوسط والمرتفع باستثناء سوريا واليمن، وهو ما يرتبط بمستوى كاف من التعليم ليجعل الأفراد قادرين ليس فحسب على متابعة الأحوال العامة فى بلدهم من خلال أدوات الإعلام، ولكن واعين بالأوضاع السياسية، والأهم تأثر جوانب حياتهم المختلفة بما تقوم به الحكومة وما تنفذه من سياسات. بعبارة أخرى يرتفع مستوى انخراط المواطنين فى الحياة السياسية وتفاعلهم معها مع ارتفاع مستوى تعليمهم، ولكن هذا لا يقيهم بالضرورة من تلاعب القادة السياسيين بمشاعرهم، واستثارة انتماءاتهم الأولية العرقية أو الدينية أو الوطنية أو حتى العنصرية.
السبب الثانى هو السياسات الاقتصادية النيوليبرالية والتى دعت الحكومات إلى التقليل من تدخلها فى الحياة الاقتصادية، ونقل كثير من مهامها إلى القطاع الخاص وقوى السوق. وهذا ما هدد قطاعات واسعة من المواطنين إما بفقد وظائفهم أو انخفاض دخولهم أو معاشاتهم، أو تردى الخدمات المقدمة لهم من تعليم وصحة أو إعانات فى حالات العجز أو المرض، ولذلك تكمن أسباب الاحتجاج أيا كانت مظاهره فى آثار هذه السياسات سواء فى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أو فى شيلى أو الجزائر أو العراق.
والسبب الثالث هو عملية العولمة التى قللت أيضا من قدرة الدولة على التحكم فى مسار اقتصادها أيا كانت درجة التقدم الاقتصادى فيها، آثار العولمة التى أشاعت السخط فى صفوف الطبقة العاملة هى التى جلبت ملايين الأصوات لدونالد ترامب كانت ستذهب للمرشحة المنافسة من الحزب الديمقراطى، وهى فى صورتها الأوروبية هى التى حشدت الكثيرين ليصوتوا لحزب المحافظين وأنصار البريكزيت فى بريطانيا وقوت من شوكة أحزاب اليمين المتطرف فى العديد من الدول الأوروبية. وقد ضيقت عملية العولمة والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية من نطاق البدائل المتاحة أمام الحكومات للاستجابة لمطالب المواطنين. فحكومات معظم الدول لا ترى بديلا عن العولمة وتلك السياسات بينما تقف عاجزة أمام آثارها التى ولدت السخط فى نفوس قطاعات واسعة من المواطنين.
وأخيرا ضاعف من أزمة الحكم هذه هو تعقد العملية السياسية واجتذابها لمن يبرعون فى ممارستها ويمتلكون مهارات تعبئة الأموال ومخاطبة المواطنين والتواصل مع جماعات المصلحة والتعامل مع شبكات الإعلام وتفاعلهم مع غيرهم من محترفى العمل السياسى لكل الوقت أو بعض الوقت بحيث أصبحوا يمثلون شريحة خاصة من البشر لهم مصالحهم الذاتية ووسائلهم فى تعزيز هذه المصالح بالاسترزاق من العمل السياسى، فصاروا فى النهاية منعزلين عن سائر المواطنين، لا يقيمون وزنا لمشاغلهم إلا كمادة خام يستغلونها فى إثارة هؤلاء المواطنين والتلاعب بمشاعرهم الأولية حتى يقفزوا هم إلى مناصب السلطة والنفوذ يدعمون من خلالها مصالحهم الخاصة. ولذلك كانت الثورة على هؤلاء السياسيين المحترفين فى لبنان والعراق والجزائر وكذلك على نخبة واشنطن فى الولايات المتحدة ونخبة المعاهد الجامعية المميزة فى فرنسا التى هى قاعدة انطلاق طبقتها السياسية.
المخرج من هذه الأوضاع بعيد الاحتمال فى الوقت الحاضر، ولكنه قد يتحقق عندما تملك الإنسانية من الخيال ما يمكنها من ابتداع بديل للسياسات النيوليبرالية، ولطرح نموذج للعولمة ذى طابع إنسانى، وفتح العملية السياسية لتتجاوب مع مطالب الحركات الاجتماعية للمواطنين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved