حادث مقتل السردار

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الثلاثاء 8 ديسمبر 2020 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

السردار ــ للأجيال التى أسعدها القدر بعدم معاصرة زمن الاستعمار ــ هو القائد الإنجليزى للجيش المصرى، وفى هذه الحالة هو الجنرال السير لى ستاك الذى حقق المفارقة الاستعمارية العجيبة بأن يكون ضابطا إنجليزيا مولودا فى الهند ويحمل لقبا فارسيا قائدا للجيش المصرى!
أطل عام 1924 على مصر وهى تموج بالحراك السياسى؛ فلم تكد تمر ثلاث سنوات على ثورة 1919، وسنتان على صدور إعلان 28 فبراير 1922 من جانب بريطانيا باعتبار مصر دولة مستقلة مع التحفظات الأربعة الشهيرة، وشهور على صدور دستور 1923. بدأ العام بداية ميمونة بتشكيل حزب الوفد أول وزارة شعبية مصرية برئاسة سعد زغلول فى يوم 24 يناير 1924، ولكن على الرغم من هذه البداية المبشرة بالخير فإن المخاطر والصعوبات الكامنة تحت السطح كانت تهدد المسيرة. أول هذه المخاطر كانت موقف الملك فؤاد الرجعى الراغب فى الحفاظ على حقه المطلق فى الحكم دون مشاركة شعبية، وهو ما جعله يكيد للوفد ولسعد زغلول منذ ثورة 19 لغيرته من التفاف الشعب حوله. والعنصر الثانى كان وجود مندوب سامى موغل فى الفكر الإمبريالى، هو اللورد اللنبى، الذى دخل بقواته البريطانية إلى القدس فى ديسمبر 1917 والذى أرسلته بريطانيا إلى مصر لقمع ثورة 1919.
يضاف إلى ذلك انقسام حزب الوفد حول إعلان 28 فبراير الذى رفضه الحزب لأنه لا يحقق استقلالا حقيقيا، وهاجمت أجنحة فى الحزب سعد لقبوله تشكيل الوزارة تحت هذا الإعلان المنفرد من بريطانيا.
***
أمر إيجابى ظهر مع بداية العام.. ففى شهر يناير نجح رامزى ماكدونالد فى تشكيل أول حكومة يرأسها حزب العمال فى بريطانيا، وأخذ سعد زغلول هذا الحدث كبادرة أمل مشجع معتقدا أن حزب العمال أقل فى غلوائه نحو الإمبريالية من حزب المحافظين. وقد خطا ماكدونالد خطوة مشجعة بإبراقه بالتهنئة إلى سعد لتشكيله الوزارة، فانخرط سعد زغلول فى المباحثات التى صارت تعرف بمباحثات سعد/ ماكدونالد على أمل استكمال الخطوات المنقوصة فى استقلال مصر... إلا أنه سرعان ما اكتشف أنه إذا كان خلاف بين العمال والمحافظين فى الشئون الداخلية، فهناك توافق بينهما فى الحفاظ على مصالح بريطانيا الإمبريالية. فتعثرت المباحثات وساعد على تعثرها اندلاع انتفاضة على عبداللطيف فى السودان مطالبة بجلاء الإنجليز والوحدة مع مصر، واتهم ماكدونالد سعد وحزب الوفد بتمويل وتشجيع الانتفاضة.
فى ظل هذا الجو المشحون والإحباط المصرى بسبب تعثر المفاوضات، قامت مجموعة من الشباب بنصب كمين بعد ظهر يوم 24 نوفمبر فى وسط القاهرة لسيارة السردار فى أثناء مغادرته لمبنى وزارة الحربية متوجها إلى منزله بالزمالك ــ وهو نادى الضباط بالزمالك الآن ــ وأمطروا سيارته بوابل من الرصاص أصابت السردار وياوره وسائقه الذى تحامل على نفسه وأسرع بالسيارة إلى قصر الدوبارة مقر المندوب السامى البريطانى، وهو اليوم مقر السفارة البريطانية. ثم نقل السردار الجريح إلى مستشفى الأنجلو أمريكان حيث توفى فى اليوم التالى متأثرا بجراحه، بينما تمكن منفذو العملية من الفرار.
جن جنون بريطانيا وصرح اللورد اللنبى بأن «السير لى ستاك اغتيل بطريقة همجية تجعل من مصر محل ازدراء العالم»، ناسيا همجية بلاده فى قصف الإسكندرية وفى مذبحة دنشواى. ثم توجه اللنبى على رأس قوة من 500 جندى بريطانى مدججين بالسلاح إلى مبنى البرلمان ليقدم إنذارا من عدة مطالب؛ أن تقدم مصر اعتذارا رسميا لبريطانيا، أن تدفع مصر مبلغ نصف مليون جنيه تعويضا، أن تبذل مصر كل الجهود الممكنة للقبض على الجناة وتوقيع العقوبة عليهم، منع المظاهرات وأى مظهر من مظاهر العداء لبريطانيا، سحب الجيش المصرى من السودان.
علق سعد زغلول على الحادث بقوله «أسفى الشديد جدا لهذه الجناية الفظيعة، ولا أدرى إلى أى غاية رمى الجناة، ولا إلى أى طبقة من طبقات الأمة ينتسبون، ولا إلى أى هيئة سياسية أو حزب سياسى ينتمون، ولكن على أى حال أعتقد أن الذين ارتكبوا هذا الإثم العظيم لم يرموا إلا إلى الإخلال بأمن البلاد وراحتها»... قبل سعد ثلاثة بنود من المذكرة الخاصة بالاعتذار والتعويض ومطاردة مرتكبى الحادث، ورفض الباقى وقدم استقالته.
***
من المفارقات أن بريطانيا كانت قد انتقدت المذكرة التى قدمتها النمسا إلى صربيا عقب اغتيال ولى عهد النمسا فى عام 1914، وهو الحادث الذى أشعل نيران الحرب العالمية الأولى، وعلقت بريطانيا بأن مطالب النمسا مبالغ فيها رغم أن مطالبها كانت تقل كثيرا عما طالبت به بريطانيا لمقتل ضابط بالجيش وليس ولى عهد البلاد.
وإمعانا فى التنكيل بمصر أصر اللنبى على إقامة جنازة كبيرة للسردار وأن يشارك فيها كل كبراء مصر ومسئوليها بالملابس الرسمية والنياشين. بعد استقالة سعد كلف الملك فؤاد أحمد زيور باشا بتشكيل الوزارة الجديدة التى أسماها وزارة الإنقاذ، وكان الإنقاذ فى مفهومه هو عن طريق الخضوع التام لمطالب بريطانيا. وقام وزير الداخلية إسماعيل صدقى بحملة قمع واسعة للقبض على منفذى العملية، شملت القبض على أحمد ماهر باشا والنقراشى لقناعته بضلوعهما فى العملية لأنهما كانا مسئولين عن جمعية اليد السوداء التى تولت قتل عدد من جنود الإنجليز أثناء ثورة 19 وعرضت الحكومة مكافأة عشرة آلاف جنيه لمن يدل على المنفذين وهو مبلغ هائل فى ذلك الوقت. ونجح البوليس فى القبض عليهم وجميعهم من الشباب الذين تراوحت أعمارهم بين 19 سنة وأكبرهم 33 سنة، وهم: عبدالفتاح عناية الطالب بكلية الحقوق، وشقيقه عبدالحميد الطالب بكلية المعلمين، وشفيق منصور المحامى وكان عضوا بالبرلمان، ومحمود إسماعيل موظف بالأوقاف، وإبراهيم موسى وعلى إبراهيم وراغب حسن (عمال)، ومحمود راشد (سائق) قائد السيارة التى فروا بها.
وفى يوم 8 يونيو 1925 حكمت المحكمة بالإعدام على الجميع عدا السائق الذى حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات. وأعدم الجميع عدا عبدالفتاح عناية الذى خفف حكمه إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، أداها كلها وخرج من السجن وقد حصل على ليسانس الحقوق وألف كتابا عنوانه «الشدائد: كيف تصنع رجالا» وكرمه الرئيس أنور السادات بأن أوقفه بجانبه بيده معول ليهدم سجن طرة بعد حركة 15 مايو.
استغلت بريطانيا حادث مقتل السردار فلم تكتف بسحب الجيش المصرى من السودان، لكنها طردت كل الموظفين المصريين، كما توسعت فى مشروع الجزيرة للافتئات على حق مصر فى مياه النيل وبدأت سلسلة من الدسائس للوقيعة بين مصر والسودان.
وهكذا طويت صفحة أخرى من التاريخ الاستعمارى فى مصر ونحمد الله أنه لا يوجد فى مصر اليوم سردار إنجليزى، بل يقود جيشها ضابط مصرى ابن مصرى إلى سابع جد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved