عقيدة النبوة فى الإسلام (الأخيرة)

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 8 ديسمبر 2021 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

آية إلهية الرسالة المحمدية أنها لم تركب على أغلاط الناس فى عقائد النبوات السالفة مثلما تفعل الدعوات السياسية للركوب على ما سبقها بإبراز عيوبه والتنويه بمحاسن ما أتت هى به.. لم تفعل الرسالة المحمدية ذلك، بل أبرأت النبوات السالفة من أغلاط والتباسات وأوضار الناس، وفرزت النبوات الصحيحة من أساطير التنجيم وجذب الجنون والكهانة، وكرمت الأنبياء ودرأت عنهم ما ألصقته بهم بغير حق كتابات أدرجت فى أسفار قديمة داخلها التحريف فى التدوين الذى استمر مئات السنين، ثم التحريف فى الجمع الذى جاوز بدوره نحو ألف سنة!.
لم تقفز الرسالة المحمدية فوق الرسالات السابقة، بل وحضت على الإيمان بجميع الرسل والأنبياء المبعوثين من الله جل شأنه، ونبهت إلى وحدة هذه الرسالات جميعا وإلى اكتمالها بالدعـوة الإسلامية الخاتمـة.. «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُـمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل 43، 44).. «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّـوبَ وَيُونُسَ وَهَـارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا» (النساء 163)..
بذلك نبه القرآن المجيد إلى أن أصول الرسالات والنبوات واحد من خلال منظومة واحدة متتابعة متكاملة ختمت بالإسلام.. «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا» (المائدة 3).
لذلك لم يكن غريبا، بل هو لب الرسالة الخاتمة، أن تتخذ من الإيمان بالرسالات والنبوات السابقة، قاعدة ينطلق منها الإيمان والتسليم بالإسلام.. «قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِى مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِى النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة 136، آل عمران 84).
والأنبياء فى كتاب العقيدة الإسلامية، أعز وأجل من الأوضار التى ألصقتها بهم الكتابات السابقة.. فهم جميعا اصطفاء الله تعالى، ومحل تكريمه سبحانه وعنايته.. عنهم تحدث القرآن المجيد بكل الاحترام والتوقير والإجلال.. «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ» (آل عمران 33).. «سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ» (الصافات 79).. وعن أبى الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يقول الله عز وجل: «وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (البقرة 130).. «وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا» (النساء 125).. «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًـا نَّبِيّـًا» (مريم 41)..
الصحف الأولى فى القرآن المجيد، هى صحف إبراهيم وموسى.. «إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الأولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» (الأعلى 18، 19).. «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَـانَ مُخْلَصًا وَكَـانَ رَسُولا نَّبِيًّا» (مريم 51).. «وكلم الله موسى تكليما» (النساء 164).. «سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ» (الصافات 120).. «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ» (الأنعام 84، 85 ).
وأبلغ ما قيل من حديث عن زكريا ويحيى، ومريم، والسيد المسيح عليه السلام.. أورده القرآن المجيد: فروى فى آيات بليغة عامرة، كيف رزق زكريا وامرأته على الكبر بيحيى عليه السلام، وروى كيف نذرت امرأة عمران ما فى بطنها لخدمة الله رب العالمين، فلما وضعت حملها أنثى جعلت تقول لربها كأنها تعتذر إليه فيما رواه القرآن الكريم: «فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء * فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِى غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِى الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء» (آل عمران 36 ـ 40).
ويخبر القرآن الحكيم كيف طهر الله مريم واصطفاها على نساء العالمين: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ» ( آل عمران 42 ).. وكيف بشرها سبحانه وتعالى بالمسيح عليه السلام ـ كلمة منه ووجيها فى الدنيا والآخرة.. «إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (آل عمران 45، 46).. وكيف آتاه الله البينات وأيده بروح القدس.. «وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (البقرة 87، 253).
كما روى القرآن الكريم كيف امتدت رعايته للمسيح عليه السلام ورفعه وطهره من كفر بنى إسرائيل الذين مكروا ومكـر الله والله خير الماكرين.. هنالك ناداه ربه سبحانه.. «إِذْ قَـالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَـرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ» (آل عمران 55، 56).. هـؤلاء الذين كفروا فقالوا على مريم البتول بهتانا عظيما.. «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا».. (النساء 156 ــ 158).
وكما اقتضت عمومية الرسالة المحمدية الخاتمة، احترام وتوقير جميع النبوات والرسالات السابقة، وتوقير وتبجيل هـؤلاء الأنبياء الذين نقلـوا رسالات ربهم، فإنها قد اقتضت أيضا فى عموم خطابها ألاّ تفرق بين الناس لعرق أو جنس أو عصبية أو لون أو مال أو جاه أو سلطان، وجعلت التقـوى والعمـل الصالـح مناط خيرية الإنسان، لا حسبه أو نسبه أو أصله أو جاهه أو ماله، فيقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13).
هذا فرع على أصل الإنسانية الواحد الذى كرر القرآن المجيد لفت الأنظار إليه.. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» (النساء 1).. «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا» (الأعراف 189).
هذه القاعدة هى التى استوى عليها خطاب النبوة المحمدية الخاتمة، تتجه من رب العالمين، إلى العالمين جميعًا والناس جميع.. لا تتحدد بمكان ولا بزمان، ولا تقتصر على أقوام أو أعراق، وإنما هو خطاب السماء إلى الدنيا بأسرها.. قيمة الإنسان بعمله وتقواه، وأبواب السماء مفتوحة على مصاريعها للعالمين تستقبل دعاء وابتهالات المؤمنين، وتتسع لضراعات التائهين والتائبين!!
Email:rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved