القوة الأعظم، إلى متى؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 8 ديسمبر 2021 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

سمعت وشاهدت وزير الخارجية الأمريكية قبل أيام قليلة يهدد وزير الخارجية الروسية بأن بلاده سوف تتعرض لعقوبات جسيمة لو أقدمت على عمل يمس سيادة أوكرانيا. سمعته هو نفسه قبل أسبوع يهدد الصين بإجراءات أمريكية قاسية لو أنها تدخلت فى شئون تايوان. رغم هذه التهديدات الأمريكية استمرت موسكو تحشد قوات على حدود روسيا مع أوكرانيا واستمر المسئولون الصينيون يكررون القسم والعهد أن تعود تايوان إلى حضن الوطن الأم. وسوف يصدر فى العام القادم عن مؤتمر الحزب الشيوعى الصينى قرارات وبيانات تعزز وتجدد نية بيجينج استعادة هذه الجزيرة مهما كلف الأمر وبالوسائل المناسبة. من ناحية أخرى استمرت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران واستمرت إيران فى تخصيب اليورانيوم مقتربة يوما بعد يوم من الدرجة التى تتيح إنتاج السلاح النووى. هناك أيضا عقوبات أمريكية مفروضة على فنزويلا وكوريا الشمالية وتهديدات لدول شتى بعقوبات تتناسب مع تجاوزات وأخطاء ارتكبتها حكومات هذه الدول فى حق قواعد عمل صاغتها عقول أمريكية، وضمنتها مبادئ العمل والسلوك فى مؤسسات دولية، لأمريكا فى إدارتها وتوجيهها نفوذ معتبر، نفوذ الدولة الأعظم. فى غالب الأحوال استمرت العقوبات ولم تتغير مواقف الدول المتمردة على تلك القواعد.
•••
هى بالفعل الأعظم حتى ساعة كتابة هذه السطور، ولا شك أننا وكل دول الشرق الأوسط، وبخاصة الدول العربية، الأدرى من أى دول أخرى بنفوذ هذه القوة الأعظم. اكتسبنا هذه الدراية جيلا بعد جيل ولم تدخر معظم دولنا جهدا فى التأقلم مع هذا النفوذ بالتمرد أحيانا ولكن بالطاعة غالبا. اشتركنا فى صنع تيار عدم الانحياز لنتمكن من درء تهديدات القوة الأعظم باقتراب حذر ومدروس من قوة عظمى أخرى، ولكن بطبيعة الحال ليست بنفوذ وقوة الدولة الأعظم.
كان يوما مشهودا، يوم سقط الاتحاد السوفييتى فانتهت الحرب الباردة، ومع انتهائها بدأ انحدار قوة الولايات المتحدة، ومع انحدار قوة أمريكا انحدرت عزيمتها. صادف أن تعرضت هى نفسها لهجوم إرهابى هز أركانها وأثار شكوكا فى العقيدة والإرادة ووحدة الأمة. راحت من بعده تحاول تعويض ما انحدر واستعادة المكانة، أو على الأقل تأكيد حقها فيها، فشنت حربا على أفغانستان كسبت فيها بعض الجولات وخسرت النصر الكلى والنهائى. ثم شنت حربا أخرى على العراق الذى تجاسر فتمرد ثم بدأ يتفكك تحت الاحتلال. هناك فى العراق المحتل انشغلت عناصر أمريكية بمهمة تشكيل عراق مختلف شكلا ونوعا. فشلت فى تركيب نظام حكم ديمقراطى ليبرالى ليس فقط فى العراق وإنما فى كل دول الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل باعتبارها نتوءا من نتوءات الإمبراطورية، أقصد القوة الأعظم.
تعددت مظاهر الفشل الأمريكى. كانت بدايته الجهود التى بذلت فى روسيا لإقامة ديمقراطية ليبرالية فور الانتهاء من تصفية القطاع العام الروسى، وضاعت الجهود هباء. من آخر مظاهره سعى إسرائيل، وقد بدأت وعاشت نتوءا، للبحث عن وسائل أخرى إلى جانب النفوذ المتداعى للدولة الأعظم لتستمر تعيش.
•••
رئاستان تعاقبتا فى البيت الأبيض. الاثنتان عقدتا العزم منذ اليوم الأول لهما فى الحكم على تحقيق هدف واحد بصياغتين مختلفتين. اختارت رئاسة الحزب الجمهورى ويمثله دونالد ترامب عنوان إعادة أمريكا عظيمة، واختارت الثانية عنوان بناء أمريكا من جديد. بالنسبة لنا كان هذا الشبه، وهو فى الحقيقة توافق وليس مجرد شبه، كان يجيب على السؤال ذى الشقين، المتردد بين متخصصين أكاديميين أو محللين عابرين، شق عن متى تعترف الطبقة الحاكمة الأمريكية بالحال السيئة التى تدنت إليها البنية الأساسية فى الداخل، وشق عن كيف تحشد الإمكانات اللازمة لمهمة كادت تكون مستحيلة فى ظرف كساد اقتصادى ثم ظرف استقطاب حزبى غير مسبوق وظرف جائحة لا ترحم وظرف عالم خارجى مدرك تمام الإدراك لتدنى مختلف معالم القوة لدى الدولة «الأعظم».
•••
خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية نموذجا يحتذى لكثير من القادة وبخاصة العاملين فى قطاع بناء الأمم. فإلى جانب القوة الصلبة التى قادت بها أمريكا دول الحلف الغربى إلى النصر وجدت أنواع عديدة من قوة غير صلبة، لا أقول انفردت بها الولايات المتحدة ولكن أقول اجتمع أكثرها فى هذه الدولة، فاستحقت أمريكا باجتماع مفردات هذه القوة غير الصلبة ومعها القوة الصلبة صفة الدولة الأعظم. استحقت أيضا أن يظهر فيها فى ذلك الوقت من المفكرين من صاغ عبارة القوة الرخوة مقارنة بالقوة الصلبة. استحقت أمريكا فى ذلك الحين أن تقدم النموذج لمن يريد أن يقلد. قدمت الديمقراطية والحكم بالقانون والمؤسسات. قدمت مجتمعا يلهث ليمحو وصمة العبودية وتعليما استطاع أن يجذب للجامعات الأمريكية مئات الألوف من شباب أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وتقدما تكنولوجيا تحقق بسباق سلمى وتعاون متكامل مع النهضة التكنولوجية فى اليابان. عشنا لنعبر هذه الفترة الاستثنائية فى حياة أمريكا إلى حيث نجد فى انتظارنا عقودا من الزمن تراجعت فيها معظم معالم ومفردات هذه القوة الرخوة.
أتحدث هنا عن جيل أعرفه حق المعرفة. جيل عاش النموذج من داخله وتأثر به من خارجه. هذا الجيل نفسه كان شاهدا على فشل القوة الصلبة فى العراق وأفغانستان وفشلها فى تنفيذ اتفاق نووى عقدته أمريكا مع إيران وخمس دول أعضاء دائمين فى مجلس الأمن وفى ترشيد العلاقة مع كوريا الشمالية. نحن شهود على القوة الأعظم وهى تحاول أن تخرج من الشرق الأوسط ولكن بغير نظام وتتعامل بعجرفة وغرور متناهيين مع أعضاء حلف الأطلسى. كنا شهودا على عجز هذه القوة عن حماية بولندا عضو الحلف من تحرشات بيلاروسيا بدعم، لا شك فيه، القطب الروسى.
تغيرت الرئاسة فى واشنطن ولم تتغير أكثر سياسات التعويض عن الفشل. لا يزال التصعيد فى الخصومات مع الصين على قدم وساق أضيف إليه التصعيد مع روسيا. لا أحد عاقلا ومزودا بخبرة بسيطة فى العلاقات الدولية لم يفهم الهدف من الإثارة المتعمدة لقضية تايوان ولحملة الكونجرس الأمريكى وصناع الرأى فى أمريكا لإشعال غضب الأمريكيين على الصين. فى الوقت نفسه كانت استقصاءات الرأى تجمع على تراجع شديد فى شعبية الرئيس جو بايدين ونائب الرئيس السيدة هاريس، الأمر الذى يضاعف من تردى القوة الأمريكية فى نظر حلفاء أمريكا وخصومها على حد سواء. بل وفى نظر أمريكيين بارزين وعديدين.
•••
خذ مثلا حماسة بايدين لعقد مؤتمر خائلى لقادة الدول الديمقراطية. لا أظن أن الوقت والظروف التى يمر فيها حلفاء أمريكا الأوروبيون تناسب انعقاد مؤتمر يتسبب فى تصدع جديد فى المجتمع الغربى. من ناحية أخرى فبالدعوة لهذا المؤتمر تكون قد وصلت إلى كل من موسكو وبيجينج رسالة تصعيد جديد وفى اتجاه مزيد من تدهور السلم العالمى. لا أشك للحظة فى احتمال أن يكون وراء الدعوة لعقد هذا المؤتمر محاولة أخرى لتغطية مظاهر عجز فى الأداء الأمريكى كدولة أعظم. أو شعور النخبة الحاكمة الأمريكية بحاجتها إلى أحلاف متنوعة الحجم والعضوية والعنوان بعد أن تأكد قطعا أن الناتو لم يعد متماسكا وموحدا وراء القيادة الأمريكية.
تعددت صيحات الاستنكار وأهمها على الإطلاق ما صدر فى أوروبا يكشف عن شكوك فى سلامة الديمقراطية فى أمريكا نفسها، وليس فقط فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. كثيرون داخل أمريكا وخارجها توقفوا كثيرا أمام أحداث احتلال مبنى الكابيتول وتنامى الأعمال العنصرية ضد الملونين وأخيرا وليس آخرا المواقف العديدة لأعضاء فى الحزب الجمهورى تكشف عن اتجاهات غير ديمقراطية أهمها القوانين المحلية الصادرة فى تسعة عشر ولاية أمريكية وهدفها تقييد حق التصويت للملونين وكبار السن وغيرهم. إن نسينا فلن ننسى تصرفات الرئيس السابق دونالد ترامب والمحيطين به وحملته على الإعلام والآراء الحرة وتنديده بمؤسسات الدولة المختلفة والمعلومات الزائفة التى كان يبثها.
•••
أرى توجها ناشئا فى أوروبا يميل إلى ضرورة تبنى الأوروبيين سياسة أقرب ما تكون إلى مبدأ عدم الانحياز الذى تبنته دول عديدة فى عصر الحرب الباردة. يعتقد مفكرون وساسة أوروبيون أن أمريكا صارت ترتكب أخطاء لا يمكن أن تتحملها طويلا الدول الحليفة لها. يقولون إن للحلفاء حقا فى أن يتصرفوا بحرية أكبر فى صياغة خياراتهم فى المواقف بين أمريكا والصين وكذلك بين أمريكا وروسيا إذا استمر تدهور العلاقة بينهما.
صارت واضحة التباينات فى المصالح بين دول عديدة حليفة وبين أمريكا. بصياغة أخرى لم تعد تتوافر الثقة الكاملة فى قيادة أمريكا للحلف الغربى مما دفع بمفكرين أوروبيين إلى الحديث صراحة عن حق أوروبا فى «استقلال ذاتى استراتيجى»، بعبارة أخرى «عدم انحياز» فى صورة جديدة. بعض الحلفاء، وربما أكثرهم، غير مطمئنين إلى مستقبل الحلف فى ظل مبادئ وقواعد متغيرة وغير مدعاة للثقة.
يرون ضبابا كثيفا يغطى مصير الرئاسة الأمريكية، فالرئيس الراهن يبدو من ناحية العمر وربما الأداء غير قابل للتجديد ونائبه سيدة غير قابلة للترشيح محله، فى النهاية يعود البديل إلى ترامب أو من يختاره، أى يعود إلى المجازفة بأمريكا، عملاق فى عمر الشباب شاخ أو ترهل أو تعرض للتلف قبل أوانه. قاد العالم منفردا أو بالمشاركة الرمزية لقرن كامل، قرن انتهى أو كاد ينتهى.
الاقتباس
لم تعد تتوافر الثقة الكاملة فى قيادة أمريكا للحلف الغربى مما دفع بمفكرين أوروبيين إلى الحديث صراحة عن حق أوروبا فى «استقلال ذاتى استراتيجى»، بعبارة أخرى «عدم انحياز» فى صورة جديدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved