ألاعيب لغوية

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 8 ديسمبر 2022 - 6:15 م بتوقيت القاهرة

سألني أحد طلابي النابهين عن سبب ارتباط وصف التقدّم باليسار بحيث إنه عندما يقال إن فلانًا هو شخص تقدمي يكون المقصود عادة أن هذا الفلان يساري الاتجاه، أي ينحاز لقيم العدالة والمساواة بين البشر. أخذت وقتي في الردّ على الطالب لأن الإجابة لم تكن حاضرة فورًا في ذهني، فبالفعل الأصل في التقدّم أنه لا يرتبط باتجاه سياسي معيّن لا يمين ولا يسار، بل هو يرتبط بالاتجاه للأمام في كل المجالات من أول التعليم والبحث العلمي وحتى نمط الإنتاج الاقتصادي، ومع ذلك فإن تطوّر المفهوم جعله لصيقًا باليسار السياسي، فلم أسمع عن ليبرالي يوصَف بأنه تقدمي، مع أن الليبرالية جوهرها الحرية، وبدون الحرية لا يكون هناك إبداع وخلق وابتكار وهذه القيم كلها وثيقة الارتباط بالتقدّم. هكذا نبهّني الطالب النابه إلى أحد النماذج التي يختلف فيها المعنى اللغوي لمفهوم معين عن معناه الاصطلاحي أي معناه الدارج أو الشائع، ومثل هذا الاختلاف بالتأكيد له أسبابه لكننا لا نقف علي تلك الأسباب بالضرورة، وبذلك أصبح مفهوم التقدم في القاموس يشير إلى التطور، وفي الاستخدام السياسي يرتبط باليسار، وفي هذا انحياز بالتأكيد.
• • •
على مستويات أقل تعقيدًا من المستوى السياسي توجد فجوة كبيرة بين العديد من استخداماتنا العامية الدارجة لمفاهيم معينة، والأصل اللغوي لهذه المفاهيم في المعاجم والقواميس، وفي هذا المقال محاولة لإشراك القارئ في بعض المفارقات اللغوية الطريفة بين ما هو فصيح وما هو شعبي. وعلى سبيل المثال تكتسب بعض المفاهيم معان عامية سلبية تأثرًا بالسياق السلبي الذي وردَت فيه تلك المفاهيم في بعضً من آيات القرآن الكريم، فنجد أننا نطلق في العامية المصرية وصف "جبّلة" على الشخص السمج معدوم الإحساس، مع أن مفهوم جبّلة في القاموس يشير إلى الجماعة كثيرة العدد بدون أي أوصاف سلبية لهذه الجماعة. وربما يرجع ذلك إلى أن مفهوم "جبّلًا" اقترن في أكثر من موضع في القرآن بالضلال، كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة يس "ولقد أضّل منكم جبّلا كثيرًا أفلم تكونوا تعقلون"، وذلك في إشارة إلى أن الشيطان أغوى أناسًا كثيرين فحادوا عن طريق الصواب رغم تحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان، أو كما في قول الله في سورة الصافات "واتقّوا الذي خلقكم والجبّلة الأوّلين"، بمعنى اعبدوا الله ولا تكونوا كمثل أقوام خلَت من قبلكم ولم تهتد إلى صراط مستقيم. بل إن مفهوم "بني آدم" نفسه قد يكتسب في العامية هذا المعنى السلبي لنفس سبب مفهوم جبّلة مع أننا جميعًا أبناء آدم عليه السلام. يقول الله في كتابه العزيز وتحديدًا في سورة يس "ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوّ مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم"، مثل هذا التوبيخ الربَاني لبني آدم بسبب عبادتهم الشيطان ربما ربط المفهوم في اللاوعي للبعض منّا بالمعنى السلبي، وهنا توجد قصة طريفة رواها لي زميل عزيز. في أحد وسائل النقل العام المكتظّة بالركاب قام أحدهم بالبصق على الأرض -وتلك عادة شعبية قبيحة وشائعة- فلمّا عاتبه رجل كبير السن بالقول: عيب عليك اللي عملته ده يا بني آدم، ردَ عليه من فوره مستنكرًا: أنا بني آدم أنا! وضجّ الراكبون بالضحك. فلقد هلع صاحبنا من أن يوصف بأنه بني آدم لارتباط المفهوم في ذهنه بعدم الطاعة لله عزّ وجّل ولم يلتفت إلى وصف سلوكه هو نفسه بالعيب، وكأن المشكلة في جوهر الإنسان وليست في نوع السلوك الإنساني.
• • •
وخارج هذا السياق، نجد مجموعة أخرى من المفاهيم الفصيحة التي أخذتها الاستخدامات العامية الدارجة بعيدًا جدًا عن معانيها الأصلية، خذ مثلًا وصف فلان بأنه "متقمع" للدلالة على تكبّره وتعاليه على باقي خلق الله، ولو أنك رجعت إلى المعنى الوارد في القواميس اللغوية ستجد أنه لا يمّت للتكبّر بصلة. لغويًا يرد فعل تقمّع للدلالة على المكوث في البيت أو التحيّر والبلبلة أو الطرد بل والذّل وهو المعنى العكسي بالضبط للمعنى الدارج، لكن استخدامًا لغويًا فصيحًا واحدًا ربما كان هو السبب في الربط بين التقمّع والتعالي في العامية، وهذا الاستخدام هو أخذ أفضل ما في الشيء، كما يمكن أن يكون التعالي مستقي من الشكل الهندسي الهرمي للقمع، عدا هذا لا يوجد ربط مباشر للتقمّع بمعاني الفخر والخيلاء. كما أننا اعتدنا على وصف الشيء الرديء الذي لا يصلح لأي غرض مفيد بأنه "عيضة"، بينما لو رجعنا للمعنى اللغوي لمفهوم عيضة لوجدناه مشتقًا من العَوض أي التعويض، ولوجدنا أن عيضة كاسم عَلَم يُقصد به الشخص المحّب للخير.. الطموح.. الناجح.. أي أنه محمّل بكل الصفات الإيجابية الممكنة ما يجعل معجم الأسماء العربية ينصح الأب بتسمية ابنه "عيضة"، وهي نصيحة لا بد وأن تؤخذ بحذر، لأن الذين سيتنمّرون على حامل اسم عيضة لا علم لهم بالمعنى اللغوي الصحيح للاسم وحتى لو علموا به فهذا لن يمنع التراذل بين المراهقين بمعايرة عيضة بأنه لا لزوم له، وسيظّل هذا التنمّر مبعث إحراج كبير. كذلك مَن منّا كان يظّن أن مفهوم "مأنتخ" الذي دخل العامية المصرية من بضع سنوات للدلالة على الشخص الكسول قليل النشاط، إنما هو في الأصل مشتّق من فعل انتخى الذي يفيد افتخر واستنكف وامتنع عن فعل الشيء من باب الأنفة؟. ومع أن مفهوم "بهلول" لغويًا يحمل معنيين أحدهما إيجابي بمعنى الشخص المرِح الضحوك، والآخر سلبي بمعنى الشخص الأحمق المعتوه، إلا أن الاستخدام الدارج لا يتعامل إلا مع المعنى الثاني الذي يفيد الاستخفاف بالشخص لنقص في وعيه وإدراكه، وهذا نوع آخر من التنمّر. أما مفهوم "جرمق" الذي يشير في الاستخدام العامي الدارج إلى معنى الوفرة والكثرة، فإنني بحثتُ عن أصله اللغوي الفصيح فلم أجد، لكني وجدت أن جرمق هو اسم أعلى جبل في شمال غرب الجليل بفلسطين الحبيبة، وهذا الجبل تكسوه الثلوج في الشتاء وتحفّه الخضرة والنباتات الجميلة ما يجعل منه منظرًا لا أروع ولا أبهى، كما وجدتُ أن جرمق هو اسم المنتمي لقبيلة الجرامقة- وهي قبيلة عربية نزحت من اليمن إلى فلسطين الحبيبة من العصور القديمة، أما لماذا الربط بين الجرمق الجبل والقبيلة من جهة والجرمق الكثرة والوفرة من جهة أخرى، فعلم هذا عند ربّي. وإذا كان فعل "تهويش" في الاستخدام العامي الدارج يُقصد به إخافة الآخرين دون فعل مادي حقيقي، فإن تهويش الناس في اللغة الفصحى يشير إلى زرع الفتنة والاختلاف بينهم، ومع أن المعنيين سلبيين في كلتا الحالتين إلا أنهما ليسا متطابقين، فالتهويش في العامية يقترن بتصنّع التخويف من الإيذاء والإضرار أما في الفصحى فإنه يقترن بإفساد العلاقات الإنسانية فعلًا.
• • •
نحّن كثيرًا إلى البرامج الثقافية التي تحدثّنا عن لساننا العربي والأهم أن تتحدَث هي بهذا اللسان، تضيء لنا جوانب لا نعرفها عن عربيتنا، وتصحّح لنا أخطاءنا، وتشدّنا إلى ذواتنا التي لم نعد نشبهها في شيء.. نحّن إلى برنامج "قل ولا تقل" ونحّن طبعًا إلى برنامج "لغتنا الجميلة".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved