الخيارات ليست كلها مفتوحة

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الخميس 9 يناير 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

فى أغسطس من عام 2007 ألقى المهندس أحمد المغربى وزير الإسكان السابق أمام الغرفة التجارية المصرية الأمريكية بالقاهرة عن رؤية لمستقبل القاهرة فى العام 2050 وكان الخطاب باللغة الإنجليزية وعنوانه «كل الخيارات مفتوحة»، ثم تكرمت مجلة وجهات نظر وترجمت نص الكلمة. وكان هذا النص ولعدة سنوات من النصوص التى أحرص على طرحها للقراء والمناقشة والنقد لطالبات وطلبة الماجستير. وكنا نركز على عدة نقاط منها وضع السيد الوزير هدفا للقاهرة أن تكون منافسا لدبى. طبقا لتعليمى ومعرفتى لا وجه للمقارنة. وليست القضية مَن شوارعه أنظف أو مَن يحتوى على مبانٍ زجاجية مكيفة أكثر وأعلى، كما أننى لا أريد أن أناقش مدى نجاح نموذج دبى العمرانى فلهذا مجال آخر. ولكن السؤال الأكثر إلحاحا الذى تطرحه المحاضرة والذى أظنه مازال مطروحا هو أى مدينة نتطلع إليها فى المستقبل؟ وما هى الوسائل التى نحتاجها للوصول لتلك المدينة؟ لا أتكلم عن فانتازيا أو ما لا يمكن إدراكه ولكن عن مستقبل ممكن ومستدام يعيش فيه سكان المدينة وزوارها (أتكلم هنا عن الجميع) بصورة مقبولة من الاحترام والعيش الكريم.
***
هناك إطاران لمناقشة ذلك المستقبل: الأول السياق العام وهو يتكون من الثلاث دعائم الرئيسية لفكرة الاستدامة وهى البيئة والاقتصاد والاجتماع وفى هذا الإطار وطبقا للمناقشات والمؤتمرات والفعاليات التى للأسف أغلبها عالمى والقليل منها محلى نعرف أننا نتحرك فى إطار ذى موارد محدودة (ليس فى مصر أو القاهرة فقط ولكن العالم ككل). ويصبح السؤال الأهم فى هذا الإطار هو كيف يمكن أن نتعامل مع حاضرنا لتشكيل مستقبل كريم ومستدام.
الإطار الثانى يتعامل مع المنوط به رسم الخطط والتصورات المستقبلية للمدينة وكيف ينتج تلك التصورات والخطط وعلى أى بيانات يعتمد وكيف يدير العمل ككل. وهذا الإطار بالذات يتناول بصورة رئيسية الهيئة العامة للتخطيط العمرانى. والهيئة منشأة طبقا لقرار رئيس الجمهورية رقم 1093 لسنة 1973 وطبقا للمادة الثانية من القرار «تتولى الهيئة إرساء قواعد السياسات العامة للتخطيط العمرانى وإعداد خطط وبرامج التنمية العمرانية فى الجمهورية والتنسيق بينها وبين خطط وبرامج الإنتاج والخدمات العامة وفاءً باحتياجات الحاضر وأساسا للمستقبل. كما تباشر مسئولية التحقق من تطبيق تلك الخطط». وشكلت القوانين التى أصدرت لاحقا أسسا هامة للتعامل مع العمران مثل القانون رقم 3 لسنة 1982 وأخيرا القانون رقم 119 لسنة 2008.
***
ورغم أن الهيئة بمقرها الرئيسى بالقاهرة وفروعها بالأقاليم المختلفة لديها خبرات وقدرات متعددة كما أنها تستعين بالعديد من التخصصات الموجودة خارجها سواء فى الجامعات المختلفة أو فى بيوت الخبرة لكن يقابل ذلك خللا كبيرا فى خبرات وقدرات المسئولين والعاملين فى إدارات التخطيط العمرانى فى المحليات. أنا طبعا لا أستطيع حاليا إلا أن أتطلع أن يكون لدينا مسئول مثل أحمد أبوطالب عمدة مدينة روتردام الهولندية الذى عمل على تطبيق رؤية للتنمية المستدامة لمدينته بالتعاون الجاد مع الخبراء المحليين والذى لا أستطيع نسيان خطابه (وهو غير المتخصص معماريا أو عمرانيا) فى كيف أنه يعمل بصورة جادة ليس فقط مع الخبراء ولكن بالاشتراك مع مواطنات ومواطنى المدينة على تحقيق تلك الرؤية التى هى فى صالحهم وصالح بيئتهم، كما أنها تمكن المدينة من أن تكون قائدة (فعلا لا ادعاءً) فى الشمال الأوروبى. ولكن ما أثاره أحد الخبراء الفرنسيين منذ أكثر من عام وهو الذى عمل على تطوير المخطط العمرانى للقاهرة الكبرى فى آخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات فى تعقيبه على أسئلة وجهت له بعد محاضرة ألقاها فى المركز الثقافى الفرنسى من أنه وبعد حوالى خمسة وعشرين عاما من العمل مع الهيئة العامة للتخطيط العمرانى وفى زيارة قريبة لها والحديث مع بعض مسئوليها يستطيع أن يرى بوضوح أن الأمور هى كما كانت (أى تقريبا جمود لمدة خمسة وعشرين عاما).. وأكد قلقى.
مما قاله هذا الخبير أيضا أن المخططات العمرانية العامة انتهت (لأنه لا داعى حقيقى لها)، وضرب مثلا عن تطوير منطقة باريس الكبرى والتى تضم أكثر من ألف بلدية فرعية بأن ما يحدث هو تفاوض دائم على المشروعات بين كل البلديات المعنية وهو طبعا ما يستهلك وقتا ولكن ينتج عنه ما قد يلبى الاحتياجات الحقيقة والأولويات للمواطنين ويستبعد ما ليس فى هذا الإطار.
***
تحديات المستقبل عديدة فى مصر وخاصة تحديات التغير المناخى وتأثيرها على الاقتصاد والبيئة والعمران تتطلب ردود أفعال سريعة وأحيانا فورية وتتطلب إشراك ليس فقط المستثمرين المحليين وأصحاب الأنشطة ولكن أيضا المواطنين المحليين. وكل هذا يتطلب وعيًا ومعرفة تختلف قليلا من مكان لآخر (مثلا مدينة أو قرية على البحر الأحمر تختلف عن مدينة أو قرية فى شمال الدلتا حول البحيرات وبالقرب من البحر المتوسط، والاثنان يختلفان عن قرية فى وادى النيل الضيق فى الصعيد الأسفل أو الأوسط. وبالطبع كل هؤلاء لهم قضايا تختلف عن من كُتب عليه أن يعيش فى نطاق القاهرة الكبرى. يتطلب ذلك التخلى عن الإدارة مركزية الطابع للتحديات المحلية وتقوية ودعم تلك الإدارات المحلية وأتصور أن هيئة التخطيط العمران تستطيع البدء فى ذلك حتى لا نستمر فى إنتاج خطط لمدينة القصير أو رشيد مثلا معدة فى أغلبها فى القاهرة. قد تكون الخطوة الأولى تقوية الإدارات الإقليم للهيئة والبدء فى نقل كوادر مؤهلة للإدارات الإقليمية والمحلية مع تدريب الكوادر التى يمكن إعادة تأهيلها محليا وبالطبع هنا يمكن الاستعانة بالهيئات الدولية والأكاديمية المصرية وإتاحة البيانات الخاصة بتلك المقترحات بصورة تسمح بنقد حقيقى. وليس لدى شك فى أن ذلك سيسهم بصورة كبيرة فى الاقتراب من تحقيق رؤية مصر 2030.
فى وقت أصبح من الواضح، بناء على الدراسات العلمية العديدة والرصينة، أن مواردنا محدودة، يجب أن تكون خيارتنا المستقبلية مبنية أولا وقبل أى شىء على معرفة جيدة ودقيقة بمواردنا المحلية المتجددة من بشر ومال وطبيعة.. ويصبح هذا التناول المحلى الذى لا ينفصل عن العالم الأساسى الذى يمكن أن يساعدنا فى التعامل مع التحديات الكبيرة التى تواجهنا. وعلينا أيضا أن ندعم مواقع المواجهة التى هى محلية بالأساس لا أن نستمر فى دعم موقع مركزى غير قادر بكفاءة على التعامل مع التحديات الكبيرة والمركبة التى نواجهها والتى تتطور على الدوام ناهيك عن اقتراح الحلول الممكنة لها قبل فوات الأوان.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved