ما سيكتبه المؤرخون عن أحداث الاعتداء على النساء فى مصر

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: السبت 9 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أحداث الاعتداء على النساء فى الطريق العام، التى تكررت فى الأيام الأخيرة فى مصر، لم تكن تحرشا جنسيا، كما توصف عادة فى الصحف، بل كانت اعتداء صارخا أقرب إلى الاغتصاب. هكذا تبين لى من قراءة ما كتبه شاهدو العيان، وما أرسلته بعض النساء إلى الصحف من وصف تفصيلى لما تعرضن له.

 

هذا الذى حدث، فضلا عن بشاعته، جديد من نوعه فى مصر، ولابد من محاولة فهمه وتفسيره. وسواء كانت هذه الأحداث نتيجة دوافع تلقائية من المعتدين، أو مدفوعة من أصحاب السلطة لإفساد ثورة الشباب الغاضب، أو مدفوعة ممن يسمون «بالفلول»، فى محاولة لإنقاذ النظام السابق وإعادته إلى الحياة، أو مدفوعة بأيد خارجية تعمل على تخريب الدولة المصرية (والاحتمالات الثلاثة لها ما يؤيدها وقد تكون كلها موجودة فى نفس الوقت)، أيا كانت الدوافع، فإن هذه الأحداث لها من السمات الجديدة ما يفصح عن تطورات سيئة للغاية حدثت فى المجتمع المصرى خلال العشرين أو الثلاثين عاما الماضية.

 

•••

 

منذ عشرين عاما (أو بالضبط فى 1992) حدثت حادثة فظيعة من الاعتداء على فتاة مصرية فى الطريق العام (عرفت بفتاة العتبة)، اهتمت بها وسائل الإعلام، وأثارت اهتماما وسخطا شديدين لدى المصريين، وكتبت عنها فى وقتها مقالا بعنوان «ما سيكتبه المؤرخون عن حادث العتبة». ولكننى عندما أقارن بين ما حدث فى العتبة منذ عشرين عاما، وما حدث فى الشوارع المحيطة بميدان التحرير فى الأيام القليلة الماضية، ألاحظ عدة فروق مهمة، ليس من الصعب أن نرى العلاقة بينها وبين ما حدث للمجتمع خلال هذه العشرين عاما.

 

وقعت حادثة العتبة بعد منتصف الليل، وكانت الضحية فتاة غير متعلمة، ومن أسرة متواضعة الدخل، كانت قد خرجت مع أمها وشقيقتيها بعد إفطار رمضان لشراء حاجيات العيد، ووقع الاعتداء عليها داخل أتوبيس مزدحم، من رجل قيل إنه معاق وبساق واحدة ويعمل محاسبا بأحد البنوك، وسارع إلى نجدتها أحد أمناء الشرطة، فأطلق عيارا ناريا فى الهواء، وقام بالقبض على المحاسب.

 

كان الأمر مختلفا جدا فيما وقع منذ أيام قليلة. فالأحداث الأخيرة من الاعتداء على النساء حدثت فى وضح النهار، وعلى نساء متعلمات خرجن للاحتجاج على سياسة الحكومة، والمعتدى ليس رجلا واحدا بل عدة رجال فى كل حالة، ومارسوا الاعتداء بشكل جماعى وفى نفس الوقت، واستمر الاعتداء مدة أطول بكثير دون أن يظهر أى رجل من رجال الشرطة، بل تدخل القدر بإنقاذ بعضهن بنشوب حريق على الرصيف المقابل، وهربت أخريات إلى داخل بعض المطاعم. شهد أيضا بعض من رأى بعض هذه الوقائع، أن المعتدين لم يكن يبدو عليهم أنهم يمارسون هذا الاعتداء بدافع الشهوة الجنسية، بل كان تصرفهم أقرب إلى عمل من أعمال التعذيب أو الانتقام.

 

ما الذى حدث فى مصر خلال العشرين عاما الماضية لينتج مثل هذا التغيرات فى معاملة بعض الرجال المصريين لنساء بريئات فى الطريق العام؟

 

من الممكن أن يتطرق الذهن إلى تفسيرات مختلفة، ولكن تصادف أن قرأت بالأمس مقالا فى مجلة انجليزية (الجارديان ويكلى ـ 1 فبراير 2013)، لا يتعلق بمصر بل بالمجتمع الهندى، وما طرأ عليه من تغيرات فى العشرين أو الثلاثين عاما الماضية، فقدم لى تفسيرا معقولا جدا لما يمكن أن يكون قد حدث أيضا للمجتمع المصرى.

 

•••

 

فى 16 ديسمبر الماضى حدثت فى الهند مأساة مماثلة لما حدث فى مصر من اعتداء على النساء، وإن كانت المسألة الهندية أكثر بشاعة وانتهت نهاية أفظع، وقامت على إثرها ضجة عظمى فى مختلف أنحاء الهند احتجاجا على الحادث، وعلى تهاون سلطات الأمن فى حماية النساء من الاعتداء المستمر عليهن فى الشوارع، حتى قدر أن امرأة هندية تتعرض للاعتداء عليها أو التحرش فى كل 22 دقيقة.

 

يتلخص الحادث فى أن طالبة هندية تدرس فى كلية العلاج الطبيعى، وفى الثالثة والعشرين من عمرها، صعدت هى وصديق لها إلى أتوبيس فى العاصمة الهندية، فسمعت بعض الكلمات الجارحة من سائق الأتوبيس، ثم التفت إليها خمسة شبان من الركاب فأمسكوا بها، وقاموا باغتصابها داخل الأتوبيس، واشترك معهم السائق الذى قام بإغلاق الأبواب، وسار بالأتوبيس ريثما ينتهى الشبان من عملهم، وهدد من يقاومه بعصا حديدية، ثم ألقوا بالفتاة خارج الأتوبيس وهى بين الحياة والموت، وألقوا معها صديقها بعد أن كسرت ساقه. أرسلت الفتاة فى طائرة إلى مستشفى بسنغافورة لعدم وجود مستشفى بالهند يستطيع إسعافها، ولكنها فارقت الحياة بعد الحادث بعشرة أيام.

 

جاءت ذكر الحادث فى المقال كمجرد مثال لما يسود المجتمع الهندى الآن من ازدواجية صارخة بين قسمين من المجتمع الهندى تظهر فى صور عدة من بينها ما حدث من ازدواجية فى فهم الدين. يقول المقال إن الهندوسية (وهى الدين الغالب فى الهند) ظلت فترة طويلة، فى نظر الهندى الحضرى المتعلم، أكثر من كونها عقيدة، تترك بصماتها فى ثقافة الهند، وفى ممارسة الهنود لحياتهم اليومية وإنتاجهم الفنى، فى الأعياد والمهرجانات، وفى الموسيقى الكلاسيكية، والرقص الهندى الراقى، وفى الأساطير الهندية الخلابة، وعادات الناس فى تناول الطعام.. الخ. وهكذا أصبحت الهندوسية، على أيدى هذا الجزء من المجتمع الهندى (الحضرى والمتعلم) من أكثر ديانات العالم (على حد تعبير كاتب المقال) تسامحا مع أصحاب العقائد المغايرة، وكذلك فى احترامها للنساء وقد قاد هؤلاء حملة ناجحة لإلغاء الطقوس الجنائزية التى كانت تقضى بإحراق الأرملة عند موت الزوج.

 

ولكن المقال يذكر أنه إلى جانب هذا التفسير الراقى للهندوسية، كانت هناك «هندوسية أخرى»، تنمو وتترعرع فى المدن الهندية الصغيرة والقرى، وتتسم بالتشدد والقسوة، خاصة فى معاملة النساء، وفى معاملة المنتمين إلى ما يعتبر فى الهند «طبقات دنيا». لقد حققت الهند فى العشرين سنة الماضية طفرة اقتصادية هائلة، ولكن كان لهذه الطفرة جانبها المظلم، وهو أن أعدادا كبيرة من الآخذين بهذه الصورة القاسية من الهندوسية، قاموا بالزحف على المدن الكبرى، من جميع أنحاء الهند، فإذا بهم يشاهدون خروجا على بعض من أكثر معتقداتهم رسوخا فى أذهانهم، ومن بينها اعتقادهم فى حق الرجل فى قهر المرأة، فراحوا يحاولون فرض هذا القهر بالقوة. وبالإضافة إلى ذلك قام بعض التواقين إلى الشهرة والزعامة من رجال الأحزاب الهندوسية السلفية، بتنصيب أنفسهم زعماء، وأضفوا على أنفسهم قداسة مزعومة، وتلاعبوا بعواطف المتعصبين من أتباعهم تحقيقا لمصالح شخصية لهم.

 

قرأت أيضا فى تعليق لأحد الكتّاب الهنود على حادثة الاعتداء على الطالبة الهندية فى ديسمبر الماضى، أن المعتدين لم يكونوا مدفوعين بالرغبة الجنسية بقدر ما كانوا مدفوعين بالرغبة فى الانتقام لتجرؤ الفتاة على الخروج والتمتع بالحياة على قدم المساواة مع الرجل، مرتدية الزى الغربى الذى ينطوى أيضا على درجة من التحرر، فإذا بالعمل الذى يبدو فى الظاهر وكأنه تحرض جنسى، هو فى الحقيقة انتقام من محاولة المرأة التحرر من قهر الرجل لها.

 

•••

 

هل فى هذا التحليل لتطور المجتمع الهندى الحديث ما يصلح أيضا تفسيرا (ولو جزئيا) لما نراه من زيادة حوادث الاعتداء على النساء فى مصر؟ بل وقد يفسر لنا ما نلاحظه (فى مصر والهند على السواء) من قلة التعاطف الذى يبديه كثير من الرجال (بمن فيهم كثير من رجال الأمن) إزاء النساء المعتدى عليهن، فإذا بهم يتجاهلون أو يصرفون النظر عن الشكوى التى قد تتقدم بها امرأة تعرضت للتحرش أو الاعتداء، أو يبدون استعدادا مدهشا لإلقاء اللوم على المرأة نفسها.

 

مرة أخرى، نجد أن حل المشكلة لا يكمن فى تشديد العقوبات أو زيادة عدد رجال الأمن. إن هذا وذاك مطلوبان بالطبع، ولكن الحل الحقيقى يكمن فى تنظيف الأذهان، الذى يتطلب تقدما اجتماعيا فى مختلف الميادين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved