صور الحب فوق الرماد

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 9 فبراير 2015 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

ماذا يفعل العشاق فى وقت الحروب؟ هل يتوقفون عن الحب؟ ماذا يفعل الصبية الذين خُلِقوا حين يكون القتل وجبة يومية يصبحون ويمسون عليها. هل يتوقفون عن الحب حتى تتوقف طلقات الرصاص والنيران الحارقة؟ هل يقولون وداعا لا وقت للولع الآن؟ أما يعاودون قراءة «وداعا أيها السلاح» وغيرها من الروايات الكلاسيكية لينهلوا منها بعضا من الصبر أو يتعلموا أن الحب لا تهزمه الحرب..

فى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية التى طالت حتى كدنا نقول إنها الأطول والأكثر دموية لتخبرنا داعش اليوم أنها كانت نزهة بريئة أمام فظاعات حربهم البشعة وقتلهم وحرقهم وقطع رءوس الأبرياء.. فى أثناء تلك الحرب كانت الصور الأكثر غرابة هى صورة عروس بفستان الزفاف ممسكة بيد عريسها، ببدلته المزينة بزهرة بيضاء، وخلفهما دمار وحطام المبانى والبيوت المهدمة.. رحلت الحرب وبقيت سريالية الصورة ربما رمزا للحياة. ربما لما علّمه اللبنانيون لكل البشر لمعنى أن تعشق الحياة أيضا فيما يوزع الآخرون الموت المجانى..

انتهت الحرب اللبنانية يوم تقرر ذلك خارج العاصمة بيروت.. انتهت عندما توقف ممولوها وأوقفوا الدعم على مختلف أشكاله.. بعدها رأينا حروبا كثيرة كلها أو معظمها تعتمد على من يمول ومن يساعد ومن يشعل ومن يبقى النار تحت الرماد! بقيت صور الحرب. وحتى تلك حاول اللبنانيون أن ينسوها أو يتناسوها رغم أن الكثير من الجيل الشاب يعمل على التذكير حتى يرددوا «تنذكر ما تنعاد» وهم يعيدون رسم الصور التى كانت الطفولة التى كبرت فى حضن البندقية والبارود وأعياد الميلاد على وقع الصواريخ والكاتيوشا..

•••

ها هى كل مدن العرب تعرف أشكالا من تلك الحرب. أصبحت الصواريخ، لغة الكثير من المحاربين، تنهال على المدن، فترحل الملائكة فجأة ويموت الأبرياء تباعا وكثيرا منهم أطفال ونساء ورجال وشيوخ كلهم لا ناقة لهم فى تلك الحروب ولا جمل، فقط كانوا هناك فى المكان والزمان الخاطئ شىء من العبث شبيه بلعبة الروليت الروسية..

بعد بيروت سقطت عواصم وأُزهقت أرواح بريئة كثيرة وتهدمت المنازل فوق رءوس أصحابها وتبعثرت الصور. بقيت هى الذكرى الوحيدة لحياة كانت تزينها أشجار الياسمين ويحميها ملح الأرض الطيبة وشمسها الدافئة.. وعادت من جديد صور العشاق المندسة بين ثنايا وبقايا حياة كانت ربما لتقول لا تزال هناك مساحة للحياة.. لا يزال الحب أكثر قوة من الموت. لا يزال قادرا على مواجهة الهمجية الجديدة...

فى تلك الأرض الجميلة المزينة بالعوسج يخرج العرسان من بقايا المنازل يمسك العريس بيد عروسه المتعطرة بالحياة، يمشون قليلا بين الحطام وسواد دخان البارود يحيطهم من كل زاوية ولكنهم يرسمون الابتسامة العريضة وينثرون بعض من السعادة فى ما تبقى من أحيائهم ومن بقى من عوائلهم..

مررت ببعض تلك المدن مؤخرا وربما أرحل لتلك المتوشحة بالحزن.. لواسطة العقد.. لراسمة الجمال.. لناثرة الثقافة والفرح. وحينها لا بد لى من أن أرى كثيرين منهم ممن لا مكان لهم سواها ولا عشق لهم إلا هى. القابضون على الجمر يكدون فى النهارات الطويلة، يعملون فى ما تبقى من مساحات ممكنة. يبحثون عن مسار لحياة يومية تبدو فى ظاهرها طبيعية بعض الشىء.

يبيعون التفاح والبرتقال على العربات ويرسلون الصوت عاليا منادين على بضاعتهم المميزة وهى التين المعجون باللوز والجوز والسمسم.. يدقون «البوظة» رغم شتائهم البارد لأنها ما تميز ذلك السوق العريقة.

يفترشون الأرض ويسقون الشاى الساخن بالنعناع. ولشايهم طعم آخر !! وفى الليالى يهربون إلى بيوتهم بعض الوقت. وحين الهدوء النسبى ــ كما قال زياد الرحبانى فى مسرحيته منذ زمن ــ يعودون إلى الشارع الذى كان يعج بالحياة على أضواء قمرهم.

يعيدون رسم بعض الحياة كما كان اللبنانيون أو ربما تلك هى المقاومة بشكلها الآخر أن تقاوم الموت بكثير من مظاهر الحياة.. فتلبس النساء أجمل ما عندهن ويتعطرن بخلاصة الورد البلدى ويزهو الرجال ببدلهم التى سلمت من آخر صاروخ نزل على منزلهم ويعودون للبحث عن مطعم لا زال هو الآخر يقاوم الموت البطىء. عندما أقفلت معظم المطاعم أبوابها ورحلت إلى عواصم أخرى بحثا عن الرزق المغمس بالغربة الصعبة..

•••

هم الآخرون سيرسلون صورا كما لبنان الحرب لعريس يحمل عروسه فوق الأنقاض ليبعد بها قليلا ربما ليستقروا عند البحر بعض الشىء أو يسترخوا فى حضن شجر الصنوبر فى الجبال. يمارسون الحب المقاوم للحروب والموت القادم باسم الدين..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved