عن أهمية المرحلة الحالية فى تطور النظام العالمى

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الإثنين 9 فبراير 2015 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

قصرت حديثى فى المقال السابق على مناقشة معالم التغيير التى تتعرض لها الكيانات القطرية المختلفة ومغزاها بالنسبة لشبكات علاقتها الخارجية، وهو الأمر الذى يهم المسئولين عن صياغة سياستنا الخارجية ضمن عملية إعداد استراتيجية قومية شاملة تناسب المجتمع والدولة القادرين على تحقيق أهداف الثورة. وقصرت حديثى على ما تتعرض له الأبعاد المختلفة من مستجدات تستوجب إعادة النظر فى مفاهيم سادت منذ نصف القرن الماضى حول موقف كل من «الفرد» و«الدولة» من «المجتمع».

وأود أن أنتقل هنا إلى المجال الآخر الذى تعنى به السياسات الخارجية وأعنى به العالم والنظام العالمى بشقيه المحلى والدولى. وأبدأ بتلخيص أفكار طرحتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. أولها ما أشرت إليه فى مقالى الأخير عن اعتقادى بأن التطورات التى تعرض لها النظام العالمى والتى تشير إلى أن الحضارة التى تتسيدها قوى عالمية متقاربة من حيث جذورها الأولية، بغض النظر عن تباعد الأيديولوجيات التى انتقتها الصفوة لمجتمعات قطعت شوطا طويلا فى الرأسمالية الصناعية التى وصلت إلى ذروتها عصر المادية أفضت إلى تقاربها.

وأنهى هذا التقارب مرحلة الاستعمار المباشر القائم على الاحتلال والاستغلال والتطاحن فيما بينها حول مستعمرات كمصدر للخامات وكأسواق يستأثر بها كل مستعمر إلى استعمار جديد يقوم على آليات اقتصادية متطورة تدعو إلى القول «العالم الثالث انتقل من الاستغلال إلى الاستغناء»، بمعنى أنه لم يعد بحاجة إلى تسخير شعوب فى بلادها لإنتاج ما يحتاجه المستعمر ومن ثم تحمل نفقات إدارة شئونها وتدبير موارد لهذا الغرض، فضلا عن أن التقدم الصناعى تزايدت مراحله المتتالية إلى مستوى لا دور للعالم الثالث فيه ومن ثم يمكن تركه لأهله الذين لا يستطيعون مواصلة العيش إلا بالارتباط التبعى بهم. من جهة أخرى لم يعد يحتاج إلى أبنائه فى حروبه بعد أن قرر أن تكون الحرب العالمية الثانية آخر الحروب العالمية فآثر أن يتركه يسعى للاستقلال.

وقد تشكك فى مقولة التقارب أهل اليسار فيما يتعلق وفى مقولة الاستغناء أهل اليمين. ولكن الأيام أكدتهما. وأصبح من المحتم على المستعمرات أن تكمل حروبها من اجل الاستقلال السياسى بكفاح من أجل الاستقلال الاقتصادى، وهو ما جعلها تسعى إلى اتباع منهج «الاعتماد على النفس» (وهو ما دفعها سريعا لاعتناق منهج «الاعتماد الجماعى على النفس»). وكان على سياساتها الخارجية أن تتوافق مع هذه الأسس.

•••

أما عن الدولة فقد مرت بأطوار ثلاثة كما تطورت نظمها وأسس سياساتها الخارجية. ففى المرحلة الأولى كانت رئاسية تحكم مجتمعا طبقيا وحدة الإنتاج فيه هى الفرد الحرفى أو المنشأة الصغيرة. وعندما قامت الثورة الصناعية الأولى (بريطانيا) دعا الاقتصاديون (الكلاسيك وعلى رأسهم آدم سميث) إلى التخصص وتقسيم العمل مع سيادة المنافسة التامة بين المنتجين لنفس السلعة.

وتحدد دور الدولة فى توفير الظروف التى تسود فيها هذه المنافسة كما سعت من أجل تنمية اقتصاداتها إلى احتلال دول أخرى لديها خامات وفيرة تغتصبها من أهلها بل وتجبرهم على التوسع فى إنتاجها وتصديرها إليها حتى توفر فرص عمل للعدد المتزايد من أبنائها، وتستأثر بأسواقها لتمكين صناعاتها من التوسع المطرد.

فطورت بذلك النظام الإمبراطورى القائم على ضم الأراضى وجلب الحرفيين للاستفادة من خبراتهم لديها وتحصيل أموال من أهاليها (على نحو ما فعلت الخلافات المتعاقبة وخاصة العثمانية) وحافظت على قواعد نظم إدارة الدولة على أساس رأسى مبنى على مجتمع طبقى تنحصر السيادة فيه بين الطبقة العليا وتتواضع الحقوق والحريات إلى أن تصل إلى مستوى الاستعباد والرق واقتناء الجوارى. حددت هذه المعالم الأسس التى تقوم عليها الحكومات برسم وتنفيذ السياسات، بما فيها السياسات الخارجية التى كانت تخص تنظيم العلاقات بين دول إمبريالية، فيما بينها ومع دول أخرى كانت تعيش ضمن حدودها. وصيغت نظريات فى هذا الشأن لا مجال هنا لمناقشتها.

وفى المرحلة الثانية تسيد الأسلوب الأمريكى الذى ساعدت نشأة الولايات المتحدة فيه وانحصار مجالها الحركى فى نصف الكرة الغربى على نشأته، فى قيام نظام يعتمد على المنشآت الكبيرة وضرورة التوافق بين أبناء الولايات المختلفة وأقامت نظاما ديمقراطيا تطور فى نصف الكرة الغربى من خلال صراعات عديدة بعضها قطرى فى الدول الكبيرة نسبيا والآخر بين ولايات صغيرة متقاربة وأصبحت الصيغة المميزة للنشاط الاقتصادى هى الشركات عابرة الحدود التى توزع مراحل الإنتاج على مواطن فى الداخل والخارج وتنشئ فروعا تابعة لها وتحصر نشاط بعضها فى عمليات تجميع المكونات من مصادر تقررها لها.

واقتضى هذا ثبات وحدات النقود وتزايدت أهمية النقود التى كان لابد من السيطرة على قيمتها فى الخارج. وانتهزت الولايات المتحدة فرصة وضع نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ومناقشة وضع نظام نقدى جديد مع تحول النقود من صيغتها المادية فى شكل معادن نفيسة تعمل كمعبّر أو قناع لقيمة الأشياء التى تتداول مقابلها.

فلا تكتسب صفة وطنية إلى أدوات تعبر عن قيمة لا عمل لها بذاتها وإنما يتفق المتبادلون عليها ويولونها ثقتهم. فجعلت الدولار أساسا للعملات الأخرى وتوسعت الأسواق المالية وتصاعدت سيطرتها على الاقتصاد العالمى فأصبحت بمثابة سلعة مستقلة مما فجّر تضخما متواصلا فى السبعينيات، أضاف أداة جديدة لتهميش الدول النامية.

وهكذا تميزت المرحلة الثانية بصيغة نظم برلمانية تتقارب فيها الطبقات وارتفع دور المنشأة إلى أعلى بينما تراجع دور الدولة إلى أن تكون مدبرة للمنزل ترتب شئون سياسات تمكين الاقتصاد والمتصاعدة قدراته والمتزايد توحشه فى دول المركز من تأمين احتياجات المنشآت الكبيرة بداخله بواسطة التشريعات النيابية والسياسات الحكومية، وفى الدول الأقل نموا التى يفرض عليها نظم سياسية واقتصادية هى غير مؤهلة لها ويضاف إليها الالتزام بما يسمى حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهى أمور لا يمكن إنكارها ولكنها تحتاج إلى تنظيم مجتمعى يساعد على توفير متطلباتها ومرة أخرى تحددت معالم السياسة الخارجية وفقا للأوضاع التى أملتها القوى المهيمنة على العالم.

•••

أصبحنا الآن فى عصر أطلقت عليه «التكنولية» يعيش عالما لم تتبلور معالمه بعد. فقد أصبح للفرد دور غير معهود بحكم أنه المصدر الذى ينشئ المعرفة وهى العنصر الحاكم للحياة البشرية وللنمو والنهوض فى المستقبل، وفى نفس الوقت فإنه يحتاج إلى كيانات تحول عطاءه إلى قيمة تهم البشر فلا بد له من تنشئة خاصته ومن توفير إمكانات مع إحاطة الأفكار التى تستخدم فى إنشاء تلك القيم بحماية لا منافسة كما كان هو الحال فى ظل النظم الإنتاجية السابقة، وصحب ذلك تعذر التعامل معه كمستهلك تنحصر اختياراته فيما توفره له أجهزة تستغل قدراته الإنتاجية.

فقد أصبح مستهلكا ومنتجا فى نفس الوقت. بينما أتاحت له تطورات الاتصالات أن يتجاوز حدود كل من نطاقه الأسرى الخاص والمحلى بل والوطنى، سواء فى شراء ما يلزمه مستغلا التطور فى النظام النقدى أو فى بيع معرفته ونواتجها وتقديم خدمات نظام التعهيد، أو فى بناء علاقاته الشخصية والتواصل مع الآخرين.

هذه العوامل مجتمعة تتطلب أمرين لا مغزى لأى اجتهادات مألوفة للإجابة عنها: الأول هو إعادة النظر فى نظريات ومفاهيم البنية الاجتماعية (إضافة لترميمها مما أصابها من انهيار لدينا) وما يترتب عليه من صك أطر سياسية واقتصادية تناسبها. والثانى هو تحديد معالم الأسس التى تقوم على أساسها الدولة ذات السيادة وما تتبعه من سياسيات أمنية وخارجية.

•••

هناك أمور أخرى تحتاج إلى نقاش فى هذا البعد الأخير. منها مدى استمرار صحة مقولة أننا نعيش مرحلة «التكتلات الكبرى» ومغزى ذلك بوجه خاص للوحدة العربية أو لدعاوى الخلافة الإسلامية. منها أيضا قدرة مجموعات صغيرة على أن تعبث بالمنتجات المعرفية لتوجهها وجهات غير إنسانية وتعبر الأبعاد العالمية لتفرض الإرهاب على بقاع مختلفة من العالم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved