«تذويب» الدول فى الوطن العربى.. لتبقى إسرائيل دولته الوحيدة؟!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 9 فبراير 2016 - 10:33 م بتوقيت القاهرة

«تذوب» الدول فى المشرق العربى وبعض المغرب، وكأنها صنعت من شمع.. تكفى نظرة متعجلة إلى الخريطة السياسية لهذه المنطقة حتى تتأكد من صحة هذا الاستنتاج.

لتكن البداية من لبنان الذى يفتن أخوته العرب بنظامه الفريد وحيوية شعبه الفائقة وشغفه بالحياة بحيث صار «جنة عدن» بالنسبة إليهم :

لبنان بلا رئيس لجمهوريته منذ عشرين شهرا، وليس واضحا متى يكون لدولته رأس، بغض النظر عن «الشخص» ودوره فى لعبة الحكم الائتلافى بقوة التوازنات الطائفية فى الداخل المحمية دوليا.. ..ومجلس النواب معطل بالأمر. ينزل بين الحين والآخر جمع من النواب لتأكيد حضورهم، وهم واثقون من أن النصاب لن يكتمل، فيسجلون «نقطة» على خصومهم أمام الكاميرات ثم ينصرفون يملؤهم الشعور بالرضا عن النفس. أما حكومته فمشلولة، لا يكتمل نصابها إلا بصفقة بين أطرافها على «عملية» ما، تؤمن المصالح بالتوازى فإذا الكل رابح، والدولة وحدها الخاسر (..ومعها الشعب طبعا!).

والدولة دائما مجمدة على باب الفتنة: يكفى استبدال موظف من طائفة معينة بآخر من طائفة ثانية حتى يسود خطر انفجار الحرب ! فالدولة ضيف شرف تقف دائما على شفا الانفجار !.

***
سوريا بلا دولة، فعليا. ثمة رئيس دولة، وحكومة، ومجلس شعب... لكن الحرب فيها وعليها تأكل الدولة والشعب وأسباب العمران والمؤسسات جميعا، الجامعات، المدارس، المصانع، المستشفيات، الجيش وقوى الأمن التى يتحول بعضها إلى ميليشيات. ثمة جيل بل جيلان قد فقدا دورهما فى البلاد بل أملهما فى الحياة فى وطن آمن بدولة عادية، بينما الميليشيات والعصابات المسلحة تنهب أموال الدولة وأرزاق المواطنين... والشوارع بحور من دمائهم.
العراق مزدحم «بالدول»، تكاد تكون لكل جهة ــ طائفة دولتها ــ لكن لا دولة لعموم العراقيين. فى بغداد ــ العاصمة، مركز الدولة، يخافون من «الدول» الأخرى فيتم تحصينها بسور من الأسمنت المصنع. للشرق دويلاته، وفى الغرب «دولة داعش»، وفى الشمال «الدولة الكردية» المهددة بالانشطار إلى دولتين، إحداهما برعاية تركيا والثانية برعاية إيران، أما الجنوب حيث النفط على سطح الأرض فيدور صراع عنيف على الذهب الأسود ومن له الحق فيه إنتاجا واستخراجا وبيعا فى السوق السوداء أو البيضاء، لا فرق...

العرب مقتتلون، مذهبيا فيما بينهم، والأكراد مقتتلون على «دولتهم» المهددة بالانشطار، والدول الغربية جميعا توفد أساطيل طيرانها الحربى لمقاتلة «داعش» المتحصن فى الموصل، فإذا «الخليفة أبو بكر البغدادى» أقوى من جميعهم.. بدليل أن الإدارة الأمريكية، تقدر أن هذه الحرب الدولية عليه لم تفقده حتى هذه اللحظة، وبعد عام طويل من القصف الجوى والهجمات البرية إلا «بعض» مصادر قوته، أى نحو الخمس منها، وأن الانتصار عليه سيتأخر لسنوات... هذا إذا لم يلجأ إلى الهجوم المباشر فى عواصم غربية عدة (باريس كمثال)، ليشغلهم بالدفاع عن عواصمهم وتفرق صفوفهم وتعاظم خلافاتهم التى سوف تضعف قدراتهم فى الحرب للقضاء عليه... هذا إذا كانوا يريدون فعلا التلاقى فى جبهة موحدة لمواجهته بالقوة القادرة على إنجاز هذه المهمة.

***
باستثناء الكويت، فإن دول أقطار الخليج، وقطر بالذات، قد انتفخت بالغاز (أو النفط) وتورمت، متوهمة أنها صارت دولا عظمى قادرة على شراء الدول والتحكم بمصائرها (ليبيا وتونس، مثل) ليس فى الوطن العربى فحسب، وإنما يمكن أن تصل بنفوذها المذهب إلى دول كثيرة فى بعض أنحاء أفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلا عن بعض الدول الإسلامية الفقيرة.

وها هى أسراب الطيران الحربى السعودى أساسا ومعه بضع طائرات حربية خليجية، تدك أنحاء اليمن شمالا وجنوبا، عاصمة وأريافا، ساحلا وجبلا، منذ شهور طويلة من دون أن يتحقق «الأمل» بإسقاط آخر مبنى يجسد بدايات الحضارة الإنسانية فى اليمن السعيد..

بل إن الناطق العسكرى باسم الحرب السعودية على اليمن قد خرج على الناس، قبل أيام، يؤكد أن بلاده مستعدة لإيفاد قوات مسلحة لتقاتل ضد النظام فى سوريا، مما دفع إلى التساؤل عن الأسرار الخفية فى تحويل المملكة المسماة باسم عائلة من دولة غنية إلى دولة جبارة تستطيع دفع جيوشها إلى ميادين قتال متعددة، خارج حدودها، وعن الفوائد التى يمكن أن تجنيها من مثل هذه المغامرات العسكرية غير المحسوبة والتى تتجاوز كل ما هو معروف عن الإمكانات الحربية للدولة المذهبة ؟!.
ومن حق الناس، فى مختلف البلاد العربية، أن يتساءلوا: إذا كان عند دول مجلس التعاون الخليجى كل هذا الفائض فى أسباب القوة فلماذا لم يستخدم فى «المعارك الأصلية» المتصلة بحماية المصير العربى المهدد فى أكثر من جهة فى هذا الوطن العربى الممتد بمساحة قارة وبإمكانات بشرية وثروات طبيعية هائلة؟!. كمثال ومن باب تنشيط الذاكرة، يمكن الإشارة إلى فلسطين...

***
أما غرب الوطن العربى فأحواله لا تقل بؤسا عن أحوال المشرق.. ذلك أن وجود «داعش» ما زال ملتبسا فى مصر، وتحديدا فى صحراء سيناء، أما فى الداخل فهو محدود، ولكنه قابل للنمو... ولا يمكن لأى عاقل أن يستبعد دعما إسرائيليا ما لهذا التنظيم الإرهابى ودفعه لمشاغلة مصر وهى تحاول التغلب على الإرث الثقيل الذى خلفه الحكم الممتد دهرا لحسنى مبارك، مع إضافة السقطات التى ارتكبها حكم الإخوان الذى جاء فى أعقاب مرحلة الفوضى، مما أنهك مصر وتسبب فى ارتباك قرارها السياسى نتيجة الوهن الاقتصادى الذى يعطل حلم النهوض الذى بشر به «الميدان» قبل خمس سنوات طويلة..

وإذا كان وجود «داعش» فى مصر ضعيفا وملتبسا مع الغرض الإسرائيلى فإن هذا التنظيم الإرهابى يتحرك فى ليبيا براحة، ويوجه ضربات قاتلة لمشروع إعادة بناء الدولة فيها، ويتخذ منها منصة لتهديد أوروبا التى تكاد سواحلها ترى بالعين المجرد من بعض أنحاء ليبيا.. فضلا عن حربه المفتوحة ضد مصر، والتى تقصد بأن يعطيها دلالات طائفية حين أقدم على إعدام أكثر من عشرين قبطيا من العمال المصريين الذين قصدوا ليبيا سعيا إلى الرزق الحلال بعرق الجبين... وواضح أن هذا التنظيم قد اتخذ من بعض جهات ليبيا، بالمدن الساحلية فيها فضلا عن قواعده الخلفية فى صحرائها التى تتقاطع مع أكثر من دولة أفريقية، «منصات هجوم» على الأهداف التى يحددها سواء فى الساحل الأوروبى المقابل أو فى بعض الدول الأفريقية حيث له قواعد خلفية فى النيجر ونيجيريا وصولا إلى مالى حيث دمر فى تومباكتو بعض أثمن التراث الفكرى الإسلامى الذى كان محفوظا فى بعض مكتباتها ذات التاريخ.

وبديهى أن تتمكن جحافل «داعش» من التحرك بحرية فى الأرض الليبية الواسعة، وأن تنطلق من بعض حدودها فى اتجاه تونس، ومن بعضها الآخر فى اتجاه الجزائر، فضلا عن المدى المفتوح أمامها أفريقيا.

***
باختصار، فإن العديد من الدول العربية تبدو فى هذه اللحظة، مهددة بالتفكك.

... وإذا ما سقطت هذه الدول المهددة فى كياناتها فى الغد القريب، فلا أحد يملك القدرة على تصور البديل: هل هو التقسيم على قاعدة طائفية – مذهبية فى أقطار معينة، ثم على قاعدة عنصرية فى أقطار أخرى؟ وهل تجىء الفيدرالية محمولة على أسنة رماح الجيوش الأجنبية التى يمكن أن توفدها عواصم القرار فى العالم لإنقاذنا من دولنا ؟!.

ألا يقودنا هذا الاستنتاج إلى التسليم بمقولة غريبة معلنة تفيد بأن إسرائيل هى «الدولة الوحيدة» فى الشرق الأوسط، وأن جوارها جميعا مهدد بأن يتحول إلى محميات لها، وهى وحدها من يقرر لها مصيرها وليس فقط طبيعة النظام وسياسات أهل الحكم فيها ؟!.
  
  رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved