مشهدٌ سرياليّ مثيرٌ للقلق..

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 9 فبراير 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

بعد القضاء التامّ تقريبا على تواجد «داعش» على الأرض، أخذت الحرب فى سوريا، وعليها، منحىً جديدا. حربٌ عناوينها الأساسيّة اليوم هى الشمال الشرقى وإدلب ومستقبل سوريا... بالتوازيّ ظهرت بقوّة طروحات تقسيم سوريا إلى دويلات ثلاث تريدها وتفرضها الدول المتصارعة كأفقٍ لحلٍّ يؤسّس لتقاسم النفوذ ما بعد الصراع.
لم يكن لتركيا أن تقبل بقيام كيانٍ يسيطر عليه حزب العمّال الكردستانيّ، الذى تصارعت معه عقودا، فى «روجافا» (غرب كردستان) على حدودها... هكذا، ورغم التعاطف الغربيّ الكبير مع «قسد»، التى تمّ إبرازها وكأنّها وحدها من قاتلت «داعش» ودفعت ثمن إجرامه، أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لتركيا كى تتدخّل مباشرةً وتحتلّ جزءا من أراضى الشمال الشرقيّ وتُبعِدَ «قسد» عن المناطق التى يتواجد فيها أغلب الأكراد هناك وينتهى الأمر بحصر سيطرتها حاليّا على مناطق عشائريّة وحضريّة عربيّة. تفاوضت الرئاستان الأمريكيّة والتركيّة على مدى التوغّل التركى وتمّ تثبيت نتيجة ذلك التفاوض، للغرابة، فى لقاءٍ بين الرئيسين الروسيّ والتركيّ.
هكذا دخلت قوّات رمزيّة روسيّة وسوريّة بحيث غدا معهد مشهد المنطقة فى مُنتهى الغرابة. دوريّات تركيّة ــ روسيّة مشتركة، ودوريّات أمريكيّة ــ «قسد» مشتركة، وأرتال عسكريّة روسيّة وأمريكيّة تتقاطع على مفترقات الطرق ولا يدرى شرطى السير السورى المسكين أيّ رتلٍ يدعه يمرّ أوّلا بينما يتلاسن ضباط الفريقين. هذا فى الوقت الذى تقوم فيه الولايات المتحدة بضخّ المؤَن والسلاح إلى المنطقة وتُهيمن مع «قسد» على منابع النفط السوريّ كى تمنعه عن باقى سوريا عدا المناطق التى تسيطر عليها تركيا المتصارعة أصلا مع «قسد». مشهدٌ سرياليّ عنوانه الأساسيّ خلطٌ للأوراق لا يتبيّن منه واضحا مشهد ما بعد الحرب... خاصّة وأنّه تمّ إفراغ الشمال الشرقى من كثيرٍ من سكّانه... بمن فيهم الأكراد..
***
فى مثل ذلك السياق، تمّ ترك منطقة إدلب الكبرى لسيطرة «فتح الشام» (النصرة سابقا) عسكريّا، دون بقيّة الفصائل الموالية لتركيا، وما لا يُمكن للمجتمع الدولى قبوله. كما تمّ تجميع ثلاثة ملايين من النازحين فى المنطقة، وتمّ ضخّ مساعدات كبيرة عليهم تقلّصت كثيرا فى الآونة الأخيرة. هكذا حتّى جاء اتفاق الأستانة بين تركيا وإيران وروسيا كى يفضى تحت عنوان «خفض النزاع» إلى التوافق على تراجع مقاتلى إدلب الكبرى وراء طرق حلب ــ حماة وحلب ــ اللاذقيّة الدوليين. بالتالى صرّح المسئولون الأتراك أنّه يجب التراجع عن هذه الطرق (ضمنيّا لصالح الجيش السوريّ) قبل نهاية العام الفائت. لكن قبيل المعركة تمّ استدعاء قادة الفصائل إلى تركيا لإبلاغهم أنّ هذه المعركة مصيريّة، ومع بدايتها تمّ ضخّ السلاح بكثافة للفصائل، الذى لم يمنع سقوط مدينة معرّة النعمان (مدينة أبو العلاء كبير شعراء وفلاسفة الحضارة الإسلاميّة) بيد الجيش السوريّ أمام القصف الجويّ الروسي ــ السورى الكثيف. ثمّ أتى دور مدينة سراقب نقطة تلاقى الطريقين السريعين كى يدخل الجيش التركيّ بكثافة وبمئات الآليّات ويُقيم نقاط ارتكاز حولها فكان الصدام مع الجيش السوريّ. لكنّ المدينة سقطت هى الأخرى ليعود الجيش التركيّ ويدخل بمئات الآليّات فى مناطق أخرى. والمعركة ما زالت مستمرّة.
ما يلفت الانتباه هنا أيضا هو خلط الأوراق.. ووجود هوّة كبيرة بين التصريحات الإعلاميّة والوقائع على الأرض.. فهل تركيا مع تسليم الطرقات السريعة للجيش السورى وحلفائه على الأرض أم ضدّه؟ ولماذا تدخّلت عسكريّا بشكلٍ كثيف؟ هل أرادت صدّ التقدّم السوري ــ الروسيّ أم لأمرٍ آخر؟ أمرٌ مشهديّ ربمّا يُنقِذ رصيدها الشعبيّ فى منطقة إدلب الكبرى. رصيدٌ كان قد تضاءل كثيرا فى الآونة الأخيرة منذ اتفاقاتها مع إيران وروسيا بانتظار أن تنتقل حرب سوريا إلى موضعٍ آخر؟ وما الهدف الحقيقيّ من دخول مئات الآليّات منطقة إدلب فيما بعد الطريقين السريعين؟ هل الهدف آنيٌّ أم لخلق حالة على الأرض تُشبه حالة مناطق درع الفرات؟ هذا خاصّة وأنّ ما سيتبقّى من مناطق إدلب سيتحوّل إلى «غزّة» كبرى.
هذا كلّه فى حين يكتفى المسئولون والإعلام الغربيّ باتخاذ مواقف بالحدّ الأدنى تمسّ المعاناة الإنسانيّة من تهجيرٍ للأهالى وقتلٍ للمدنيين دون الخوض فيما تعنيه هذه المعركة حول مستقبل سوريا ما بعدها.
أغلب قتلى هذه المعركة مقاتلون سوريّون من الطرفين. جنودٌ سوريّون يؤدّون خدمة العلم الإلزاميّة ومواطنون سوريّون حملوا السلاح لأسبابٍ مختلفة ضدّ السلطة فى سوريا. دمٌ سوريّ يدفع واقعيّا ثمن ما تمّ أصلا الاتفاق عليه دوليّا.. على أمل أن يتمّ من خلال حمّام الدمّ الجارى القضاء على «فتح الشام» التى لا تريد أيّة دولة من الدول المنخرطة فى الصراع دفع الثمن البشريّ للقضاء عليها. نزيفٌ يلى نزيف. الجيش السورى و«قسد» فى المعركة للقضاء على «داعش»، ونزيف «قسد» و«الفصائل» فى معارك عفرين ثمّ الشمال الشرقيّ.
***
ثمّ ماذا بعد فتح الطريقين السريعين؟ فى فترةٍ تفاقم خلالها الانهيار المالى، الذى لم ينتهِ أصلا، وامتدّت أثاره المناطق التى تسيطر عليها السلطة فى سوريا حيث تتفاقم ضائقة اقتصاديّة تُنذِر بكارثة معيشيّة كبرى. هذا حتّى قبل تطبيق قانون «قيصر» الذى أقرّته الولايات المتحدة مؤخّرا والذى يُطبِق الحصار على البلد إذا ما تمّ تنفيذه. كارثة معيشيّة تتوالى فصولها تدريجيّا. هذا فى حين يصرّح مسئولو الولايات المتحدة، للولوج أكثر فى خلط الأوراق، أنّ إسقاط النظام فى سوريا ليس هدفهم.
ربمّا تُشكّل الكارثة التى تبدو ملامحها اليوم التهديد الأكبر لموجة نزوحٍ كثيف إلى أوروبا أكثر منها تلك فى إدلب.. فموجة اللجوء الكبرى فى 2015 جاءت فى أغلبيّتها من مناطق سيطرة السلطة فى سوريا ومن الشمال الشرقى، وخاصّة بين المواطنين الأكراد، أكثر منها من مناطق المعارضة أو تركيا، هذا لأنّ أعداد اللاجئين إلى تركيا لم تنخفض حينها.
فى ظلّ التوجّهات القائمة على الأرض لخلق وقائع جديدة وهذا الخلط الكبير للأوراق على الصعيد السياسيّ الدوليّ والميدانيّ، لابدّ من طرح الأسئلة عمّا تريده الدول المنخرطة فى الصراع من سوريا ومن المشرق العربيّ عموما؟ ما الذى تريده الولايات المتحدة بعد أن أمسكت بمطرقة مجاعةٍ تثيرها متى شاءت؟ وما الذى تريده تركيا من الشمال السوريّ؟ وما الذى تريده روسيا بعد أن أصبحت قوّة أساسيّة فى سوريا؟ وما الذى تريده إيران بعد أن تمّ رمى أزمة لبنان على كتف حليفها حزب الله؟ وما الذى تريده الدول العربيّة، إذا كانت تمتلك أيّة إرادة فى زمن «لحظة الخليج» التاريخيّة الآن، هذا فى حين لا صوت حقيقيّا لها فى وجه «صفقة العصر»؟!!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved