أجمل رحلة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 9 مارس 2011 - 10:29 ص بتوقيت القاهرة

 قضيت أكثر من ثلاثة أرباع العمر مسافرا. كنت فى السابعة عندما سافرت فى أول رحلة لى خارج القاهرة وكانت إلى حلوان عبر التلال الممتدة من المقطم إلى المعصرة. لم أصل إلى الخامسة عشرة إلا وكانت رحلاتى قد غطت مصر من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها. وفى السادسة عشرة بدأت رحلاتى خارج الوطن برحلة إلى المملكة الليبية أعقبتها رحلة فى السودان أخذتنى إلى إقليم جبال النوبة ومنه جنوبا إلى أقاليم أعالى النيل. أما آخر رحلات مرحلة التلمذة فكانت رحلة قطاع غزة التى قطعها اعتقالنا على حدودها وقضاء ثلاث ليال فى سجن قسم الشرطة الإسرائيلية بمدينة بير السبع عاصمة النقب.

كان السفر بالنسبة لى هواية ممتعة قبل أن أحترفه ليصبح مهنة أعتز بها. كنت أظن، قبل أن يتحول الظن إلى اقتناع، أنه لا يوجد ما يثير الخيال ويشجع على الإبداع مثل رحلة إلى مدينة تراها لأول مرة. تمشى فى شوارعها وتجلس على أريكة فى حدائقها وتجالس أهلها فى مقهى بحى شعبى وتشجع فى آن واحد فريقين يلعبان فى أكبر ملاعبها كرة القدم لا تنتمى لأيهما ولا يربطك بكليهما معرفة أو مشاهدة سابقة. مازلت أذكر شعورى وأنا أشاهد مباراة بين فريقين مجهولين فى مدينة روزاريو الأرجنتينية، أذكر شعور من يتحمس لأداء اثنين وعشرين لاعبا وليس لشىء آخر.

شعرت شعورا مماثلا وأنا أعيش مظاهرات عارمة فى مدينة سانتياجو عاصمة تشيلى نظمتها تيارات يمينية بقيادة المسيحيين الديمقراطيين ضد سلفادور آييندى مرشح الاشتراكيين والشيوعيين. لم تكن القضية قضيتى. وكان لازما ألا أجعلها قضيتى وإلا صرت ضيفا غير مرغوب فى وجوده بالبلاد. عشت مظاهرات من نوع آخر فى عاصمة الأرجنتين نظمتها فى ذلك الوقت القوى البيرونية التى كانت تدعو خوان بيرون للعودة بعد عشرين عاما قضاها فى المنفى. كانت فرصة لأشاهد على الطبيعة العسكريين وهم يتعاملون مع الشباب المتظاهرين من طلبة وعمال، وهنا أيضا لم تكن القضية قضيتى، فكان ضروريا أن ألجم عواطفى وأخفى انحيازاتى أمام أصدقاء كانوا يشكلون فى الأمسيات دوائر معارفى الخاصة، وكان بعضهم يقود صفوف المتظاهرين فى الصباح.

●●●


قضيت أمام شاشة التليفزيون خلال الأسابيع الأخيرة وقتا لم أقض مثله خلال سنوات عديدة. عشت مع المتظاهرين الذين فجروا ثورة تونس قبل أن ينضم إليهم المتظاهرون فى مدن مصر كافة. مرت أيام عظيمة قضيتها متجولا فى بلاد العرب ولكن من موقعى أمام الشاشة. صحيح أن معظم ما رأيته من تفاصيل مدن لم يكن جديدا بالنسبة لشخص زار كل هذه البلاد، ولكن الصحيح أيضا أن هذه الرحلة اختلفت عن كل ما سبقها من رحلات قمت بها فى العالم العربى. اكتشفت من موقعى أننى لم أكن وحدى. كانت رحلة مع الملايين من العرب غمرنى خلالها شعور بالرغبة فى أن أتولى مهمة المرافق السياحى والمستشار السياسى للملايين من رفاق الرحلة.

تخيلت دورى وأنا أقول لهم، هذه هى تونس العاصمة، وهذه هى صفاقس وسوسة والمهدية والحمامات والقيروان وبنزرت، ومنها إلى مصر، هذه هى القاهرة والسويس والإسكندرية وكفر الشيخ وأسيوط وطنطا وبورسعيد والفيوم. ومن مصر إلى اليمن، وهذه هى صنعاء وتعز والحديدة وعدن ومأرب وعدن. ومن اليمن إلى بنغازى ومنها إلى طبرق ومصراتة وسرت والزاوية ونقف على أبواب طرابلس، المدينة التى كادت تصبح إيطالية الشكل والعاطفة لولا انقلاب القذافى ومن طرابلس الغرب إلى عمان العاصمة وعمان السلطنة، هنا وهناك شاهدت والملايين من رفاق الرحلة شعبين يتطاولان على النظام الملكى يطالبان بالحرية. ومن صلالة الى المنامة حيث المظاهرات الهادرة تتوجه إلى دوار اللؤلؤة. ما أتعسه شعب يشوه حكامه سمعته وسيرته ومطالبه فيتهمونه بالطائفية. لذلك وجدت المظاهرة اللبنانية اليتيمة من أنبل ظواهر العرب المجددين، المظاهرة التى خرج فيها المئات من اللبنانيين يطالبون بإسقاط النظام الطائفى. ومن بيروت، أجمل مدن العرب تحركت القافلة إلى شرق السعودية، حيث كان الشباب يتظاهرون ويستعدون لمظاهرات أوسع فى ظل تعتيم إعلامى ساهمت فيه جميع أجهزة الإعلام المحلية والعالمية على حد سواء.

●●●


رحلة ليست كالرحلات، أغنى من كل الرحلات، رحلة فجرت طاقات الإبداع وحققت ما لم تحققه نداءات لم تكن أقل نبلا، وأطلقت كوامن الأمل من زنزانة المعجزة إلى ساحات الممكن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved