عقيدة الصدمة وعام من العلاج بالصدمات الكهربائية


تامر موافي

آخر تحديث: السبت 10 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

مساء الجمعة 28 يناير 2011 سيبقى مرتبطا فى أذهان المصريين بخليط متباين من المشاعر ولكن المؤكد أن البارز بينها سيكون شعور الصدمة. حمامات الدم التى شهدتها ميادين مصر فى هذا اليوم وراح ضحية لها وفق التقديرات الرسمية المحافظة أكثر من 800 شهيد تشكل فى مجموعها واحدة من أكبر الصدمات التى تعرض لها الوعى الجمعى المصرى فى تاريخه المعاصر. ولكن الانسحاب الأمنى المفاجئ والظهور اللحظى والمريب لجماعات البلطجية فى كل مكان تقريبا كان بدوره صدمة أخرى لا تقل أثرا.

 

خلال أقل من أسبوع كان المصريون على موعد جديد مع مشاهد عنف صادمة أخرى مع هجوم جماعات البلطجية على المعتصمين بميدان التحرير فيما أصطلح على تسميته بموقعة الجمل. هذه المرة أتيح لملايين المصريين أن يتابعوا تفاصيل العنف البربرى الذى أطلق من عقاله فى قلب عاصمتهم من خلال شاشات التليفزيون فى نقل حى ومباشر للأحداث التى استمرت طوال 24 ساعة تقريبا.

 

تنحى الريس المخلوع لم يضع كما أمل كثيرون ممن احتفلوا فى شوارع مصر فى مساء الحادى عشر من فبراير نهاية لمسلسل العنف الصادم. فبخلاف تواصل وتصاعد مظاهر الإنفلات الأمنى فى كافة أنحاء الجمهورية كان قلب العاصمة مسرحا لاستخدام القوة المفرطة من قبل قوات الأمن أو الشرطة العسكرية ضد الاعتصامات أو المسيرات المعارضة. وفى أحيان متعددة كان لما يسمى بالمواطنين الشرفاء نصيب وافر من استخدام العنف ضد المعتصمين أو المتظاهرين. فى المحصلة لم يمر شهر واحد خلال العام الذى تلا ثورة 25 يناير دون حادث عنيف يتراوح بين الهجوم الضارى دون ضحايا وبين المذبحة التى راح ضحيتها العشرات. بين فض اعتصام مجلس الوزراء الأول فى نهاية فبراير التنحى ثم فض إعتصامى التحرير فى مارس وأبريل ثم معركة ليلة 28 يونيو فى أعقاب حادثة مسرح البالون وفض الاعتصام فى أول أيام رمضان الماضى مرورا بمذبحة ماسبيرو ثم أحداث محمد محمود فاعتصام مجلس الوزراء الثانى صعودا إلى مذبحة استاد بورسعيد المروعة وما تلاها من أحداث فى محيط وزارة الداخلية، كان الوعى الجمعى للمصريين ينتفض كأنما يتعرض لصدمات كهربائية واحدة تلو الأخرى.

 

●●●

 

الصدمات الكهربائية ولكن حرفيا هذه المرة كانت تنتفض لها أجساد عدد من المرضى النفسيين فى بدروم معهد أبحاث كندى فى النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى. هؤلاء كانوا ضحايا تجارب ممتدة أشرف عليها أستاذ فى علم النفس السلوكى يدعى إوين كاميرون وهدفه ببساطة هو مسح أدمغتهم وتحويلها إلى صفحات بيضاء يكون بمقدوره بعدها أن يخط عليها ما يشاء. هذه الفكرة التى تبدو مجنونة لم تبد كذلك فى نظر مسئولى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الذين مولوا تجارب كاميرون والتى شملت إلى جانب إخضاع فئران تجاربه البشريين لعدد ضخم من الصدمات الكهربائية فرض جرعات كبيرة من العقاقير المخدرة وعقاقير الهلوسة عليهم كما شملت إجراءات مختلفة لعزل حواسهم عن العالم المحيط بهم من خلال عزلهم فى غرف مبطنة ومظلمة لفترات طويلة وعصب أعينهم وسد آذانهم وإحاطة أطرافهم بانابيب مطاطية. هذه الإجراءات وغيرها تحولت إلى برامج منهجية لما يسمى فى مصطلحات الإدارة الأمريكية بأساليب الاستجواب «المحسنة». الاسم الذى استخدمته هذه الإدارة لمواجهة اتهامات التعذيب التى وجهت إليها بعد انكشاف أمر استخدام هذه الاجراءات وخاصة مع معتقلى جوانتانامو أو مئات وربما آلاف غيرهم اختطفوا من أماكن مختلفة حول العالم وعذبوا فى زنازين أجهزة استخباراتية صديقة وحليفة لأمريكا. قبل انكشاف هذا الأمر كانت كتيبات وكالة الاستخبارات الأمريكية الإرشادية تعترف صراحة بان هذه الإجراءات غير قانونية فى مقدمة شكلية قبل الشروع فى سردها وتوضيح أفضل طرق استخدامها.

 

الخبرات المهمة التى أمدت تجارب كاميرون بها أجهزة الاستخبارات الأمريكية أصبحت أساسا لنقلة نوعية مهمة فى أساليب الاستجواب والتعذيب نقلتها هذه الأجهزة بكرم بالغ إلى نظيراتها فى الدول الصديقة وخاصة فى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. ولكن هذه لم تكن نهاية القصة وإنما بدايتها فقط. هذا ما تطلعنا عليه ناعومى كلاين الباحثة الكندية صاحبة كتاب «عقيدة الصدمة» الذى عرضت من خلاله نتائج تتبعها انتقال هذه العقيدة من مختبرات كاميرون إلى زنازين التعذيب ثم إلى قاعات دراسة علم الإقتصاد فى جامعة شيكاغو حيث بنى ميلتون فريدمان فيلسوف الليبرالية الجديدة نظريته ومدرسته الخاصة حول دور الصدمات الكبرى للوعى الجمعى للشعوب كعامل مساعد رئيسى لفرض سياسات «الإصلاح» الاقتصادى التى تلقى عادة مقاومة كبيرة لأنها بالضرورة تحطم الأسس التى يبنى عليها البشر العاديون حياتهم ونسيج مجتمعهم.

 

كما كان هدف كاميرون هو تقويض إحساس الفرد بالزمان والمكان ورده إلى حال الطفولة العقلية بحيث يصبح عجينة طيعة فى يد طبيبه النفسى أو معذبه فإن نظرية فريدمان قامت على حقيقة أن الصدمات الكبرى التى تحدثها كارثة طبيعية أو حرب أو العنف السادى لنظام مستبد إلخ فى وعى الشعوب تفقدها توازنها النفسى وتردها إلى حالة من الطفولة العقلية تنظر فيها إلى حاكمها أو محتلها على أنه المخلص والأب والملجأ وتصبح على استعداد لتقبل سياسات وإجراءات كانت ستقاومها بشدة فى الحالات العادية.

 

سياسات الليبرالية الجديدة تبنتها منظمات الحكومة الاقتصادية العالمية كصندوق النقد والبنك الدوليين من خلال ثالوثها المقدس (الخصخصة ــ التخلى عن إجراءات تنظيم السوق ــ تخفيض الإنفاق العام) الذى تم فرضه كبرنامج للإصلاح إما كشرط للقروض أو شرط لإعادة جدولتها. وتم هذا بسهولة أكبر عندما كانت الدول المستهدفة تمر بأزمات عميقة وبسهولة أكبر وأكبر عندما كانت شعوبها قد تعرضت لتوها لصدمات مروعة. حدث هذا فى الأرجنتين فى أعقاب إرهاب سنوات الحكم العسكرى وفى تشيلى بعد انقلاب أوجستو بينوشيه الذى أطاح بحكم أليندى ومر بدول أخرى كثيرة قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة نفسها ليطبق فى ولاية لويزيانا فى أعقاب كارثة كاترينا وهى المناسبة التى كتب فيها فريدمان مقاله الأخير قبل وفاته مباشرة ليؤكد أن الكارثة هى فرصة مواتية لتطبيق إصلاح هيكلى فى الولاية يطول بشكل خاص نظامها التعليمى العام الذى كان لابد فى رأيه من خصخصته.

 

●●●

 

عقيدة الصدمة ليست بالطبع بعيدة عما شهدته مصر فى عقد مضى، جمال مبارك هو أحد تلامذة مدرسة شيكاغو المخلصين وهو وحلقته القريبة فى الحزب الوطنى ولجنة السياسات ثم فى حكومة أحمد نظيف قد عملوا باجتهاد على دفع عملية فرض سياسات الليبرالية الجديدة على الاقتصاد المصرى. أما ما نعرفه اليوم عن دور وزير داخلية نظام الرئيس المخلوع المحورى فى مخطط التوريث فيحمل دلالات كاشفة يتقاطع معها العلاقة الوثيقة بين أجهزة أمنية مصرية ومثيلاتها فى أمريكا. فاتساع نطاق العنف الأمنى فى عهد العادلى ليتخطى خصوم النظام السياسيين وقمع الأحزاب والحركات المعارضة إلى القيادات العمالية وقمع الإضرابات حتى يصل إلى رجل الشارع العادى، رغم أن له تبريراته المستقلة عن أى مؤامرة شاملة للتمهيد للوريث هو مع ذلك يفسر كثيرا ظاهرة انفصال المجتمع المصرى عن واقعه وحالة الاستسلام التى بدا عليها قبل الثورة. هذا الاستسلام لم يكن كاملا مع ذلك وهو ما استدعى أن توضع خطة محددة لإصابة هذا المجتمع بصدمة مروعة عندما يكون من المطلوب نقل السلطة إلى جمال مبارك رغم المعارضة الشعبية الكبيرة. هذا بالضبط ما سمعناه على لسان محسوبين على نظام المخلوع عندما أكدوا أن الانسحاب الأمنى المفاجئ هو أحد خطوات مدروسة لخطة وضعت لتنفيذها فى حال توفى الرئيس فجأة وأصبح من اللازم نقل السلطة إلى ابنه بسرعة.

 

العنف الدموى فى يوم جمعة الغضب ومن بعده تنفيذ خطة الانسحاب الأمنى المفاجئ لم يفلحا فى إنقاذ حلم الوريث وفى نهاية المطاف سقط مبارك الأب أيضا، لكن نظام الأب والمصالح المرتبطة بسياسات الابن الاقتصادية لم يسقطا معهما بل ربما وجدا فرصة مواتية فى تعميق الشعور بالصدمة والعمل على استمراره لتطويع الوعى الجمعى بصورة تجعله يتقبل استمرار النظام الذى سعى لإسقاطه والسياسات التى أفقرته إلى حد الثورة. فترويع الناس بغياب الأمن وانهيار الاقتصاد وشبح الجوع ومؤامرات الخارج وأصابعه الخفية فى الداخل هى التقنيات المساعدة على إبقاء أثر الصدمة مستمرا فى وعى الناس وهى تفقدهم كل رغبة فى المقاومة بل تجعلهم أكثر رغبة فى العودة إلى حالة الاستقرار التى يفتقدونها مهما كان الثمن باهظا.

 

●●●

 

بعد عام من العلاج بالصدمات وعقاقير الهلوسة الإعلامية هل استسلم الجسد المصرى أخيرا لمشيئة معذبيه؟ ألا يبدو أن مذبحة بورسعيد هى الضربة الأخيرة التى استنزفت من هذا الجسد كل قدرة لديه على الثورة والمقاومة؟ فى ظنى أن عاما من العلاج المكثف بالصدمات رغم أنه قد ينهك قوى هذا الشعب إلا أنه لن ينجح فيما فشل فيه علاج تدريجى دام حوالى أربعة عقود. مازال بإمكان هذا الشعب أن يسقط النظام كما أسقط الأب وأن يطيح بسياسات الإفقار كما أطاح بأحلام الوريث فإرادة المقاومة لم تنكسر والثورة مستمرة!

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved