«على معزة وإبراهيم».. رحلة لمواجهة الألم

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 9 مارس 2017 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

هذا بالتأكيد فيلم يمثل مغامرة فنية مختلفة عن السائد والمألوف، مع طموح يستحق التقدير فى معالجة الواقع الذى صار أكثر تعقيدا وتركيبا وربما غرابة عما نعرف. «على معزة وإبراهيم» أول أفلام المخرج شريف البندارى الطويلة، بعد تجاربه المهمة فى مجال الأفلام الروائية القصيرة، لا يخلو من ملاحظات، وليس عملا كامل الأوصاف، ولكنه فيلم يحمل سحره الخاص اللافت، مصدره بالأساس شخصيتان فريدتان قدمتا بكثير بالحب والتعاطف، ثم هناك بالطبع هذا الانحياز إلى أولئك الذين لا نراهم دائما على الشاشة، نسميهم المهمشين فنعزلهم أكثر، بينما هم يمثلون الأكثرية فى قلب الصورة، ومع ذلك لا يظهرون؛ لأن الصورة بأكملها «فلو».

يمكن أن نعتبر الفيلم، الذى كتب له السيناريو والحوار أحمد عامر عن قصة لإبراهيم البطوط، كأنه رحلة بحث لبطليه الغريبين سلوكا وحياة ومكانا، وبينما نجزم لوقت طويل من المشاهدة بأننا أمام اثنين من المرضى، فإن الحكاية تقودنا إلى رحلة تحرر للرجلين، وتحرر المحيطين بهم، اكتشاف للعقدة وحلها، وتجاوز للخوف وللماضى المؤلم، لا يتم ذلك إلا من خلال مساندة البطلين لبعضهما، ثم انضمام الحارة لهما، هنا فكرة جيدة للغاية تجعل خلاص المهمشين من بينهم، لا أحد يشعر بهم، والسلطة التى تظهر فى بداية الفيلم ممثلة فى ضابط بوليس (يلعب دوره آسر ياسين)، تعتبرهم متهمين حتى يثبت العكس، رغم أننا لسنا فى منطقة عشوائية، وإنما فى قلب القاهرة القديمة، فى منطقة الدرب الأحمر.

هذا عن الفكرة التى وصلت بطريقة أو بأخرى، أما عن الشكل الذى تم اختياره فهو فى رأيى مرتبك، وتلك هى ملاحظتى الأساسية: فالإطار الواقعى الصارم المحيط بالشابين على معزة (على صبحى)، وصديقه ورفيق رحلته إبراهيم (أحمد مجدى)، جعلهما معزولين فعليا عن الجميع، واختلافهما الفريد يبدو فعلا أقرب إلى المرض النفسى، وقد ظل هذا الإطار الواقعى المباشر يعاكس سحر علاقة على بالمعزة ندى، التى سنكتشف فعلا أن لها معنى يتجاوز افتتان شاب برعاية حيوان، كما حرم فيلمنا من أن تنطلق حكاية الأصوات المبهمة التى يسمعها إبراهيم إلى آفاق أوسع.
المشكلة إذن هى أن الواقع بتفاصيله، والفكرة بثراء مستوياتها، والخيال بالحرية التى يحملها على شريط الصوت أو الصورة، كل ذلك لم يندمج فى وحدة متماسكة، فقد كان صوت الواقع المباشر هو الأعلى طوال الوقت، بينما يفترض أن هذا النوع من السرد هو بالأساس يتجاوز الواقع. فالغرابة يجب من البداية أن تكون قانونا، وليست استثناء، يجب أن تصبح وسيلة معادلة للواقع لا جزءا نشازا فيه، وهذا هو سبب الارتباك الذى ظهر بوضوح فى مشاهد الفيلم الأخيرة، وهذا هو السبب الذى قد يجعلك كمشاهد مستغربا أن يتجاوز الشابان مخاوفهما بهذه الطريقة، أو أن يتجاوب الجميع معهم عن هذا النحو، الذى ظهر فى الجزء الأخير من الأحداث، بينما كان ذلك ممكنا وبسهولة، لو أن قانون الحكاية هو الغرابة، مثلما يفعل أمير كوستاريكا فى أعماله، هنا فقط يصبح الواقع كما نعرفه فى خدمة هذه الغرابة، ومتوافقا معها.
لكن هذه المشكلة الفنية يعوضها الفيلم من خلال رسم تفاصيل شخصيتيه، ومعالم أزمتهم، ورغم أن الفيلم يختار زمنه بعد ثورة يناير، وفى ظل ظروف فشل عام ومحبط، إلا أن أزمة على معزة ورفيقه إبراهيم هى نفسية بالأساس، محورها عدم القدرة على مواجهة الواقع أو المأساة: على بفقدان خطيبته فى واقعة عبثية على كوبرى قصر النيل، وإبراهيم بانتظاره للموت أو فقدان السمع نتيجة للأصوات المرتفعة التى لا يستمع إليها سواه، وبينما يرى على فى المعزة الصغيرة التى أطلق عليها اسم خطيبته ندى، تعويضا عن مأساته، فإن إبراهيم يتشبث بأمل تنفيذ رأى معالج روحانى، اقترح عليه وعلى صديقه صاحب المعزة أن يقوما بإلقاء أحجار فى مياه البحر المتوسط، والبحر الأحمر، ونهر النيل، التماسا للشفاء.

توسع فكرة رحلة على وإبراهيم الدائرة كثيرا، وتحقق هدفا مزدوجا: توطيد الصداقة بين الشابين المهمشين اختلافا أو مرضا أو فقرا، كما تمنح الحكاية بعدا رمزيا عن بلد بأكمله، ربما يحتاج أهله جميعا لمثل هذه الرحلة للمواجهة، وللتخلص من آثار الماضى، وللتحرر من الخوف والعجز، وينسج السيناريو ببراعة مواقف كثيرة فى الإسكندرية وسيناء للبطلين معا، نكتشف تدريجيا من خلالها أن ندى أكبر من أن تكون معزة، وأن أصوات إبراهيم أخطر من أن تكون مرضا.

فى الرحلة، تصبح المعزة ندى بديلا عن واقع مرير يؤلم الشاب على، وتبدو الأصوات التى يسمعها إبراهيم خطرا لا ينفع الهروب منه، فلا الشاب يريد أن يفقد نفسه السمع مثل جده، ولا هو يريد أن يموت منتحرا مثل أمه، ولا يحب أن يكون هاربا من مأساته مثل والده.
ولكن الحكاية ليست فقط عن إبراهيم وعلى، ولكنها أيضا عن بقية المهمشين: عن سائق الميكروباص كاماتا (أسامة أبو العطا فى دور مميز)، الذى يقرر أن يتزوج من بائعة الهوى نور (ناهد السباعى فى دور لافت ومؤثر)، وعلاقة الاثنين جميلة وثرية، مثل معظم علاقات شخصيات الفيلم، والأم أيضا التى جسدتها سلوى محمد على تمتلك منطقها فى مواجهة ابنها الوحيد، وتعتبر ندى المعزة عدوتها اللدود، كان ابنها على أفضل حال حتى وقعت مأساته، فلم يعد يهتم إلا بالمعزة.

يختار الفيلم فى النهاية أن يتضامن المهمشون فى مواجهة أزمتهم، يساعدون بعضهم، كان الأمر سلسا فى حكاية كاماتا ونور، لقد أحبها فقرر أن يتزوجها، هكذا ببساطة محببة، ولكن الفيلم ارتبك فى حكاية على وإبراهيم: بمنطق الواقع بدا غريبا أن ينجح إبراهيم فى اكتشاف أصواته بمجرد العزف على العود،و وتأخرت كثيرا تفاصيل حكاية خطيبة ندى، فبدت كما لو كانت مختلقة، اختلط قانونا الواقع والخيال بشكل مزعج، وحاول المعنى أن يصل رغم كل ذلك، وهو بالفعل معنى جميل: لم تعد هناك أصوات، لم تعد هناك ندى، ولا حتى أحجار أخرى يمكن رميها فى الماء طلبا للشفاء، هناك فقط على وإبراهيم وأهل تلك العطفة فى الدرب الأحمر، المهمشون يواجهون فيكسبون.

لنا أن نتحدث الآن عن مولد مخرج مهم للأفلام الروائية الطويلة هو شريف البندارى، هذا التمكن الحرفى، وذلك الطموح الكبير يستحقان التحية والتقدير، كل العناصر التقنية فى مستوى رفيع يثير البهجة، خاصة أنها أسماء شابة رائعة: تصوير عمرو فاروق، مونتاج عماد ماهر، موسيقى أحمد الصاوى، ملابس ريم العدل، ديكور وإشراف فنى أحمد فايز..الخ.
شريط الصوت مذهل فى تكامله، وفى توظيف الصمت والضجيج، على صبحى هو على معزة، لا أستطيع التفكير فى ممثل آخر، أحمد مجدى ممثل واعد جدا، يحتاج فقط إلى تلوين إلقائه للحوار ارتباطا بمعنى الكلام، التجربة كلها مهمة رغم ملاحظات دافعها الحب والحرص على أن يكون القادم أفضل.
«على معزة وإبراهيم» فيلم يستحق وقتكم فى المشاهدة والتأمل.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved