قيمة الاختلاف فى الديمقراطية الأوروبية

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: السبت 9 مارس 2019 - 12:40 ص بتوقيت القاهرة

لا تتوقف استطلاعات الرأى العام التى تجريها المراكز البحثية الأوروبية للتعرف على أولويات المواطنين والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى تشغلهم وتفضيلاتهم بشأنها.
حتى تسعينيات القرن العشرين والعقد الماضى كانت استطلاعات الرأى العام تظهر اهتمام الأوروبيين الواسع بقضايا السياسة الداخلية مثل تمايزات برامج أحزاب اليمين واليسار، ومواقف الائتلافات الحاكمة فيما خص النظم الضريبية وتقليص فجوة الدخول بين الأغنياء والفقراء، وضمانات الرعاية الاجتماعية للعاطلين عن العمل وللأطفال ولكبار السن. وفى أوقات الأزمات الدولية كالغزو الأمريكى ــ البريطانى للعراق (٢٠٠٣) والإقليمية كالحروب الأهلية فى يوغسلافيا السابقة (تسعينيات القرن العشرين)، كان الأوروبيون يتفاعلون مع السياسات الخارجية لحكوماتهم ويبدون التأييد أو الرفض (الاحتجاجات الشعبية الواسعة فى بريطانيا ضد تورط حكومة تونى بلير فى غزو العراق مثالا).
أما اليوم، فلم تعد تلك الصورة المتوازنة لاهتمامات الأوروبيين غير سراب لا وجود له فى الواقع. تدلل استطلاعات الرأى العام المعاصرة على تحولات جذرية حدثت وتحدث فى أوروبا التى صار المواطن بها غارقا فى نوعين من القضايا، التنازع على الهوية والصراعات على تخصيص الموارد.
فمن جهة أولى، فرضت الموجة الجديدة لهجرة الشرق أوسطيين مع انهيار الدول الوطنية فى سوريا واليمن وليبيا والآسيويين من المجتمعات التى تعانى من حروب أهلية مشتعلة منذ عقود (أفغانستان) والأفارقة من البلدان التى تفتك بها كوارث الفساد والفقر والبطالة، فرضت هذه الموجة قضايا الهوية على الأوروبيين وقسمتهم إلى معسكرين متنازعين: أنصار إغلاق أبواب أوروبا فى وجه القادمين من خارجها والذين باتت أحزاب اليمين المتطرف واليمين الشعبوى تعبر عنهم وتحصد أصواتهم الانتخابية، ودعاة الإنسانية المتسامحة وعالمية حقوق الإنسان بمضامينها الليبرالية المتمسكة بتمكين غير الأوروبيين من القدوم إلى القارة مهاجرين وطالبى لجوء وباحثين عن فرص للعمل وللحياة الآمنة الذين تحمل برامج بعض أحزاب يمين الوسط واليسار التقليدى (كالاشتراكيين الديمقراطيين) واليسار التقدمى (كالخضر) قناعاتهم.
وبين صعود المتطرفين والشعبويين ومشاركتهم فى حكم دول أوروبية متزايدة العدد وتراجع الأحزاب الديمقراطية وتخلى بعضها عن سياسات فتح أبواب القارة للأجانب (كالحزب المسيحى الديمقراطى فى ألمانيا)، تدور تنازعات مريرة حول الهوية تستدعى أحيانا أسوأ ما فى تاريخ الأوروبيين، المشاعر العنصرية والأفكار الفاشية.
فيما خص قضايا الهوية أيضا ينقسم الأوروبيون خارج حدود دولهم الوطنية بين مؤيدين لبقاء الاتحاد الأوروبى ومشروعه الاندماجى الذى ضمن السلم والرخاء لعقود طويلة وبين راغبين إما فى الخروج على النحو الذى قررته أغلبية البريطانيين قبل سنوات قليلة (مهما تعثرت مسارات الخروج راهنا) أو فى تقييد سلطات واختصاصات الاتحاد وتمكين الدول الوطنية من «استعادة سيادتها» المفقودة (هكذا يتحدث رافضو الاتحاد والمشككون فى بيروقراطية بروكسل وصلاحياتها الواسعة).
من جهة ثانية، تدلل استطلاعات الرأى العام المعاصرة (وأستمد معلوماتى هنا من استطلاعات أجراها بين 2013 و2018 فريق بحثى فى قسم العلوم السياسية بجامعة زيورخ واطلعت على نتائجها التى لم تنشر بعد) على أن الأوروبيين باتوا يقصرون اهتمامهم فيما خص قضايا السياسة الداخلية وبجانب مسألة الهوية على توزيع موارد بلدانهم على أولويات مثل المعاشات والرعاية الصحية والتعليم ودعم كبار السن ودعم الأسر ذات الأطفال ومساعدة المهاجرين واللاجئين وشئون البيئة. بل إن الأوروبيين أضحوا يتعاملون مع أمر توزيع الموارد على نحو صراعى بحيث تنظر مجموعاتهم المختلفة لتخصيص الموارد كأمر لا يقبل القسمة. لذا يدفع اليمين المتطرف والشعبوى باتجاه إلغاء الموارد المخصصة لمساعدة المهاجرين واللاجئين طارحا على ناخبيه رؤية صراعية تدعى أن ما يذهب «للسوريين وللمسلمين الآخرين» إنما يخصم من مخصصات المعاشات والرعاية الصحية ودعم كبار السن (وأيضا تجديد البنى التحتية فى العديد من المدن والقرى الأوروبية).
ولذلك تشعر أحزاب يمين الوسط واليسار التقليدى واليسار التقدمى بالضغط المتصاعد للناخبين الغاضبين من فتح أبواب أوروبا للأجانب وتتراجع عن سياساتها السابقة وتقلل الموارد المخصصة لهم (ألمانيا والنمسا نموذجا)، مهما كانت مقولات اليمين المتطرف والشعبوى غير موضوعية ومهما كان دمج المهاجرين واللاجئين فى سوق العمل أنفع اقتصاديا واجتماعيا من تهميشهم. فقط أحزاب الخضر وقليل من الاشتراكيين الديمقراطيين هم الذين يواجهون غضب المتأثرين بالمتطرفين والشعبويين بتكثيف سياساتهم وبرامجهم حول دعم كبار السن والأطفال والأسر وابتداع منظومات جديدة للضمانات الاجتماعية مثل اقتراح دخل أدنى ثابت تكفله الدول لجميع المواطنين والمقيمين الشرعيين.
التنازع حول الهوية والصراع بشأن تخصيص الموارد هما القضيتان المركزيتان اللتان تشغلان اليوم أذهان الأوروبيين، هما القضيتان المركزيتان اللتان تؤطران برامج وسياسات الأحزاب المختلفة والمتنافسة فى صناديق الانتخابات، هما القضيتان المركزيتان اللتان ستحددان المعانى المستقبلية لليمين واليسار بأطيافهما التقليدية والتقدمية والشعبوية والمتطرفة.
هكذا تعيد أوروبا اكتشاف الاختلاف كقيمة ديمقراطية أساسية بجانب التوافق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved