الريف.. المسكوت عنه

وائل زكى
وائل زكى

آخر تحديث: الإثنين 9 مارس 2020 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

كتب بيرم التونسى عام 1939 أبياتا تقريرية واثقة، «محلاها عيشة الفلاح»، مؤكدا أنه «مطمن قلبه مرتاح»، ثم سرد مجموعة من المبررات بداية من أن الفلاح «يتمرغ على أرض مراح والخيمة الزرقا ستْراه» أى السماء بكل ما فى هذا المعنى من وصف حالة ريفية متكاملة يتمرغ فيه الفلاح ويمرح فى أرضه وليس بينه وبين ربه حاجز، بدون انكسارات أضواء المدينة التى تحجب عن ساكنها رؤية تشكيلات النجوم المتلألئة فى سمائها، بل ينتقل التونسى إلى شعوره نحو المدينة بأن «المداين مزروعة شوك ياما يقولوا يا ندماه»، ربما قصد بمن يندم هو من اختار ترك ذلك النعيم الريفى ليسكن المدينة، وهذه المقابلة الريفية الحضرية التى عبر عنها بيرم ونقلنا إلى أجوائها كصورة ريفية حالمة كل من تغنوا بهذه الأبيات من أساطين الغناء، تُرى ما الذى أجبر ساكن الريف أن يهجره ليسكن المدينة ربما فى عشوائياتها ومعظمهم كذلك؟، هل الحالة الريفية فى مجملها لم تعد على صورتها الحالمة، أم لم تعد القرية مكانا واعدا لتحقيق طموح الشباب؟، أم ضاقت الأرض المراح والبراح بالوفاء بمتطلبات المعيشة؟ هل المنطقة العشوائية للمهاجر من الريف أفضل من سكنى القرية؟
وبعد أن كانت تطلعات الشاب الطموح أن يعمل فى البندر حيث التجارة والحرف والمجتمع المنفتح عن مجتمع قريته، خرج ليس قاصدا البندر أو القاهرة بل تعداهما إلى العراق وليبيا وغيرهما، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى وعاد إلى قريته يبنى فيها منازل حديثة بالأسمنت خارج داير الناحية وعلى امتدادات الطرق التى تربط القرية بجيرانها، وصار بعضهم لديه منزل من الطين والطوب اللبن داخل الكتلة القديمة للقرية ومنزل حديث يمتلئ بالأجهزة المنزلية الحديثة، وقد تخلى عن الفرن والكانون وعرف سكنى الأدوار العلوية منذ تخلى عن حرفة الزراعة التى ربما يحترفها خارج مصر، ولكنه عاد إلى قريته ليمتهن التجارة والنقل وتبدأ ظاهرة التعدى على الأرض الزراعية فى الوضوح، إلى أن تأتى التسعينيات بقانون يحرر العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر فى الأراضى الزراعية على مدى مهلة بلغت خمس سنوات انتهت عام 1998، ولم تنتهِ إلا وكان مئات الآلاف من المزارعين مستأجرى الأراضى الزراعية قد أخرجهم ملاك الأراضى لينطلقوا طالبين فرصا للعمل، وقد بدأت ظاهرة المناطق العشوائية بالمدن منذ أواسط التسعينيات تتفشى بمعدلات أكبر عن ذى قبل لا سيما بالقاهرة والإسكندرية وبعض المدن الكبرى بالوجه البحرى، وتمتلئ بالباحثين عن العمل ومنهم من احترف مهنا كونت فى فترة وجيزة اقتصادا هامشيا تعاظم بسرعة، اشتمل على أعمال رسمية وغير رسمية وتضمن حرفا يدوية كما تضمن أعمال تجارة وبناء ونقل وحتى السمسرة.
***
طوال الفترة ما بين منتصف التسعينيات حتى أواخر العقد الأول من الألفية، لم تقدم الدولة بدائل واقعية إلا فى بعض ما تم تخطيطه من قرى ولم يكن التنفيذ جادا إلا فيما له علاقة بمد شبكات الكهرباء وبعض مشروعات التغذية بالمياه النظيفة ومشروعات الصرف الصحى، أما عن المشروعات الاقتصادية فلم تكتمل لأحدها منظومة تسويقية متكاملة، فإذا تبنت الدولة مشروعا للتسمين لم تربطه بمشروعات لتصنيع الألبان ونقل المنتجات حتى كان العاملون يلقون بالألبان وفوائض إنتاجهم بالمصارف والترع، وكذلك الحال فى بعض مشروعات مزارع إنتاج البيض وغيرها أخذ كل منها فترته ولم يستمر فى نجاحه لعدم اكتمال عناصر المنظومة التى تشتمل على توفير هياكل مؤسسية ووسائل النقل وإعداد الأسواق إلى جانب الحماية من أباطرة الاحتكار، مما زاد من إقبال شباب الريف على سكنى المدينة لعل فيه فرصة عمل، فى حين بدأت ظاهرة أخرى فى التنامى حيث اشتدت أزمة السكن بالمدن التى حوصرت بالعشوائيات وبدأ كثير من العاملين بالمدينة بالسكن على أطراف القرى المحيطة بها، والواقع أن كثيرا من ملاك الأراضى التى حررت من مستأجريها المزارعين أسهم بشكل أساسى فى تبوير الأراضى وتحويلها إلى مساكن، حتى أن بعض القرى قد التحم بالمدينة خاصة مدن الوجه البحرى سواء عواصم المحافظات أو المدن المتوسطة، وذلك كله فى استمرارٍ للتعدى على الأرض الزراعية.
أيضا مع بداية الألفية تضافرت عدة جهات حكومية للتعاون فى مشروع إعداد نموذج إرشادى لتخطيط القرية المصرية، تم تقييد الحلول العمرانية فى قرى النموذج بالحدود العمرانية للقرية طبقا للتصوير الجوى الذى تم فى السبعينيات، والسماح للامتداد فى حدود عشرة بالمائة من مساحة الكتلة العمرانية مع تهذيب التشكيل العمرانى لها، فى حين كان واقع الامتداد العمرانى للقرية قد تخطى تلك الحدود بل وأصبحت هناك بؤر عمرانية متناثرة داخل الأراضى الزراعية غير محصورة كونت تجمعات سكنية لها مسميات دارجة بين الناس ولا تظهر بخرائط الحصر المساحى أو التصوير الجوى، ومع ظهورها على الصور الفضائية الحديثة إلا أن معظم المخططات اعتبرت جميع المتناثرات وما هو خارج الحيز العمرانى مخالفا ولم تعره اهتماما كأن لم يكن، وصار كل مخطط قرية منعزل عن محيطه الإقليمى على اعتبار أن معالجة تلك الظواهر السلبية هى مهمة المخطط الإقليمى والذى بدوره يواجه تلك المشكلة بتوصيات تسهم فى تأكيد وجود المشكلة أكثر مما تسهم فى حلها، إذ يخرج ذلك عن نطاق عمله لتصبح التوصيات تقرير حالة لأخذها فى الاعتبار داخل الخطط الأشمل والأكثر تكاملا والتى ترتبط بالتوجه الاستراتيجى وسياسات تنمية الريف والقرية المصرية.
***
الواقع أن التوجه الاستراتيجى فيما يبدو من سياساته اعتمد على التنمية الزراعية كقاطرة اقتصادية لتنمية الريف، وعلى الرغم من نجاحات استصلاح الأراضى إلا أن فاقد الأرض الزراعية أهدر ثمرة التنمية الأفقية لقطاع الزراعة لا سيما أن القدرة الإنتاجية للفدان المستصلح لا تكاد تصل إلى قدرة فدان الأرض الطينية إلا بعد سنوات واستثمار قوى، وقد ظلت المقارنة بين التنمية الرأسية للقطاع الزراعى والعوائد التنموية السريعة والمباشرة من تنمية القطاع الصناعى تحسم توجهات الاستثمار نحو الأخير خاصة خلال العقد الأول من الألفية ونحو مزيد من التعدى ليس على الأرض الزراعية فحسب وإنما على توجهات التنمية الريفية برمتها، مما أثر أيضا على تشكيل العمران فى القرية والمدينة ومن ثم تأثيره غير المباشر على سمات الريف والحضر بشكل أسهم فى تحول جوهرى لنمط المعيشة وأسلوب الحياة فى كليهما، وظلت جهودا حثيثة ومخلصة ولكنها متفرقة توجه نحو إيجاد قاعدة اقتصادية تلملم شتات الطاقة البشرية التى صار لها قطاع اقتصادى هامشى غير رسمى يتعاظم دوره وتأثيره على مجريات السوق وتوازنات العرض والطلب وأسعار السلع.
ولا يكتمل العقد الثانى من الألفية إلا وقد رسّخ ذلك الاقتصاد وتلك العشوائيات بالقرية والمدينة واقعا غير رسمى فى غيبة قانونية أحيانا، واستغلالا لقصور الرقابة أحيانا أخرى ما لبثت الدولة أن تصالحت معه قانونا فى المبانى أو تغاضيا فى العمران، كما أن ما تشهده مصر حاليا من طفرات فى مجالات الطرق والبنية التحتية والمدن الجديدة من جهة، والتنمية الاقتصادية فى المشروعات الصناعية وحتى المشروعات الزراعية من جهة أخرى، هى فى الواقع تخدم الاقتصاد الكلى والتنمية الحضرية ولا تمس جوهر التنمية الريفية إلا بما يحتك منها بالقرية كاحتياج متمم لنجاح الخطط، وتبقى معدلات النمو السكانى والعمرانى المطّرد على ذات الرقعة الزراعية يفرض إيجاد بدائل خارج الوادى والدلتا، كلام مكرر منذ ثمانينيات القرن الماضى ويظل الريف هو الريف المسكوت عنه، وقد صار المجتمع كله يتحمل حاليا كلفة خدمات لقطاع سكانى حرفى ومهنى مستهلك له اقتصاده غير المنظور لا ينتشر فقط فى القرية بل فى عشوائيات المدن التى تعد الوجه الآخر للمشكلة الريفية وإحدى ظواهرها، وأزعم أن ستين بالمائة من مشاكل المدينة لن تحل إلا بتنمية القرية المصرية، أو إيجاد بدائل مستحدثة تحل مشاكل الريف والحضر بجذبها تلك الفئة السكانية التى أصبح لها سمات مختلطة ريفية حضرية.
ومن تلك السمات الاجتماعية والخصائص الاقتصادية وهذه الحالة الريفية تجد أن تدرج التجمعات العمرانية فى مصر قد ينقصه مستوى ما بين القرية والمدينة، وهو مستوى المجتمع الزراعى ــ صناعى الذى لا يتوقف عند كونه مجتمعا زراعيا ــ صناعيا بالمفهوم الاستثمارى، ولكن يشمل ذلك البعد الاقتصادى المجتمعى فى إيجاد تجمعات عمرانية خارج الوادى والدلتا تقوم على التصنيع الزراعى والصناعات الوسيطة والتحويلية، وتتدرج من مستوى القرية إلى البلدات الزراعى ــ صناعية إلى المدن المتوسطة، حيث يتوافق فيه تصميم القرية مع الحياة وطرق الإنتاج الحديثة فى حين تستوعب البلدات الزراعى ــ صناعية الأيدى العاملة الحرفية فى تطبيق نظم تتنوع من التقليدية إلى النانو والتكنولوجيا الحيوية بما يتناسب وقدرتها على استيعاب أيدى عاملة، كما تستوعب المدن المتوسطة الأيدى العاملة المهنية والحرفية التى تدير الأسواق والنقل وسائر الخدمات الوسيطة، إن اللجوء إلى وضع معايير ومعدلات حديثة للقرية المصرية التى تتواكب ومتطلبات المستقبل، وأيضا استحداث تجمعات عمرانية وسيطة ما بين القرى والمدن أثبتت نجاحاتها فى دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية بل وتأسست عليها قلاع صناعية أصبح صيتها الصناعى أكبر من قاعدتها الزراعية الناجحة أيضا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved