نجوم على الأرض

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 9 مارس 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

ألقيتُ نظرة عابرة على الڤيديو الذي ظهر لي على صفحة الفيسبوك وكدت أتجاوزه، لكن من باب الفضول أردتُ أن أعطي نفسي فرصة، وقلت لقطة واحدة تكفي. كان الڤيديو عبارة عن لقاء أجرته المذيعة الشهيرة ليلى رستم في برنامجها التلفزيوني "نجوم على الأرض" مع عميد المسرح العربي يوسف وهبي أو بالأحرى يوسف بك وهبي. وما أن بدأت المشاهدة حتى أحسست أن مغناطيسًا شدّني إلى تلك الحلقة فظللتُ مشدودة إليها على مدار ساعتين كاملتين. من البداية أعترف أنني أقدّر قيمة يوسف وهبي الفنية تقديرًا عاليًا، لكنني لم أكن أيام زمان واحدة من جمهوره، هل يجب أن أعترف أيضًا أنني كنت أخاف من عينيه حين تجحظان وهو يؤدي بعض الأدوار مثل دور الشيطان في فيلم سفير جهنم؟ بلى سأعترف. وسأعترف أيضًا أنني مع كل حبّي للغة العربية كنت أشعر حين يستخدم يوسف وهبي اللغة الفصحى في حواراته العادية كنت أشعر أن شيئًا ما لا يريحني لأنه لا يتكلم مثلنا، فنحن لا نقول هلمّوا بل نقول ياللا، ولا نقول نسخر بل نقول نضحك على كذا أو نألّس على كذا، وهكذا. ثم إن معظم أفلام يوسف وهبي كانت من الميلودراما العنيفة، وهو نوع لا أتحمّس له كثيرًا ما لم يرتبط بقصة عاطفية مؤثرة كما هو الحال مع فيلم غرام وانتقام، ولكن عندما كان يوسف وهبي يلعب أدوارًا كوميدية كما في فيلم "إشاعة حب"، أو فيلم "اعترافات زوج" كنت أجده شديد الظرف واللطف وأحفظ عن ظهر قلب حتى الآن جملًا له تتسّم بخفة الظل. أما المسرح الذي هو عميده فمع الأسف لم أشاهده فزمانه كان غير زماني. في حوار يوسف وهبي مع ليلى رستم وصَفَ الذين لا يحبّون الأعمال الفنيّة المأساوية بأنهم أنانيون لأنهم لا يشاركون الآخرين في معاناتهم فيخّف حِمل تلك المعاناة عن كاهلهم، وعلى هذا النحو وضعني يوسف وهبي في خانة الجمهور الأناني لأنني لا أميل للقصص الميلودرامية، ولو كانت هناك فرصة لمناقشته حينها لقلت له إنه يظلم مَن لا يحبون الميلودراما العنيفة لأن لديهم بالتأكيد هم أيضًا مشاكلهم اليومية التي يبحثون عن التخفّف منها بالإقبال على مشاهدة الكوميديا، وهذا لا يعني أبدًا أنهم لا يتعاطفون مع معاناة الآخرين.

• • •
إن حلقة نجوم على الأرض التي أجرتها ليلى رستم مع يوسف وهبي حلقة مذهلة، فهي شهادة على زمن كان فيه عميد الأدب العربي وعميد المسرح العربي وأمير الشعراء وكوكب الشرق كلهم مصريون. وهي شهادة على عصر كان فيه مصدر الاحترام هو العقل لا الزِّي، فهذه المذيعة المثقفة التي كانت ترتدي الميكروچوب أدارت حوارًا طويلًا لا أمتع منه ولا أدسم، وهو حوار فيه جزء معّد بالتأكيد، لكن فيه جزءًا آخر ينبع من تطوّر مسار الحوار. فعندما شرح يوسف وهبي وجهة نظره حول أن الميلودراما هي أساس المسرح الذي يهدف لنشر الوعي الاجتماعي وتثقيف العقول بعكس الفكاهة إلا أن تكون هذه الفكاهة اجتماعية، تدخّلت ليلى رستم قائلة إن هذا إذن هو ما نطلق عليه satire أي تهكّم، فصحّح لها يوسف وهبي فهمها للفكاهة الاجتماعية قائلًا إن satire فيه نوع من المبالغة والكاريكاتير أما الفكاهة الاجتماعية فهي التي تنتقد الواقع الاجتماعي بخفة ظل كما هو الحال مع مسرحيات كلٍ من موليير ونجيب الريحاني. مبدئيًا نجد هنا أن المذيعة توظّف ثقافتها الفرنسية في مناقشتها لضيفها، وثانيًا وهو الأغرب أنها وضيفها افترضا أن الجمهور يفهم معنى هذا المصطلح الفرنسي ناهيك عن أن الجمهور شاهَد مسرحيات موليير، وهذا يعطينا فكرة عن سياق البرنامج إعدادًا وتقديمًا وعن السياق المجتمعي بشكل أعّم. وهكذا، سار البرنامج كمثل لعبة شطرنج تنطوي على تشغيل للذهن طول الوقت دون استعراض ولا إحراج ولا تشنجات ولا انسحابات على الهواء مباشرة. يشرح لنا يوسف وهبي الفارق بين المسرح الإنجليزي والمسرح الفرنسي، فالأول حركاته مدروسة بعناية فائقة، أما الثاني ففيه مبالغة في التعبيرات الجسدية. نحن أمام مشاهد/فنان محترف يداوم خلال وجوده في أوروبا على حضور مسرحيات شكسبير والكوميدي فرانسيز، قادر على المقارنة ليس فقط بين اثنين من أكبر المسارح الأوروبية، لكنه قادر بنفس التمكّن على المقارنة بين رسم الشخصية وتمثيلها في إطار نفس المسرح، وهكذا فإن عُطيل كما أبدعه شكسبير ليس هو عُطيل كما مثّله لورانس أوليڤييه. نرفع لك القبعة يا يوسف بك.
• • •
تتطرّق ليلى رستم لنزعة ضيفها الثورية كما جسّدتها أعماله المسرحية، وتسأله من أين واتته تلك النزعة الثورية وهو سليل عائلة أرستقراطية ويحمل جدّاه من الناحيتين لقب الباشوية، كما تسأله عن العداوات التي لابد سبّبتها له نزعته تلك، فيقول لها ولنا إنه عندما أنهى دراسته بمعهد الكونسرڤاتوار بميلانو وعاد لمصر، قرّر أن يجعل من مسرحه أداة للتغيير، وعلى مدار التاريخ كان المسرح له هذا الدور الخطير، فتحطيم سجن الباستيل جاء على إثر مسرحيات موليير، كما أن الاستقلال الأمريكي وتحرير العبيد جاء تاليًا على مسرحية أنكل تومز كابين في نقد ظاهرة العبودية. وهكذا انتصر يوسف بك وهبي لقيم الحرية والكرامة والمساواة أمام القانون. أما عن تعليقه على أن الطبقة الأرستقراطية تعاديه لأنه ينادي بما لا يخدم مصالحها فجاء تعليقًا مقتضبًا وبليغًا، قال يوسف بك وهبي "أعتقد أن أعدائي أقل من محبيّ لأن الأرستقراط كانوا أقلية والشعب هو الأكثرية"، ومع ذلك فإن دفاعه عن المظلومين ليس للاستفادة من حبهم، كما قال، بل لأن هذا ما يؤمن به.
• • •
في هذا البرنامج الذي أذيع عام ١٩٦٦ وتم تسجيله في بيروت، تتكشّف لهؤلاء الذين لم يكونوا يعرفون الكثير عن شخصية يوسف وهبي- وأنا من ضمن هذه الفئة- كيف يكون الفنان صاحب الرسالة. لقد آذت يوسف وهبي النظرة المجتمعية الدونية للفن والفنانين في بلده، فقرّر أن يدرس فن الإلقاء أولًا في إيطاليا ثم في بريطانيا، ويسلّح نفسه بالعلم ليقنع جمهوره بأن الممثل الواقف على خشبة المسرح يستحّق الاحترام. وإذا كان قد بدأ بنفسه في عملية التغيير، فإنه لم يتوّرع عن تغيير زملائه الممثلين إلى الأفضل حفاظًا على الإطار المحترم للعمل، فإذا به عندما تخلّف أحد الممثلين عن موعد رفع الستارة قرّر دون تردّد أن يبدأ العرض في موعده حتى بدون الممثل، وكان لتصرّفه هذا وقع السحر على الجمهور. وعندما وجد أن التقاليد تفرض تخصيص أماكن خاصة للنساء في المسرح كما تفرض عليهن مشاهدة الأعمال الفنيّة من وراء ستارة من الدانتيلا الرقيقة، فكّر في التحايل على تلك التقاليد لتحصل النساء على متعة المشاهدة بنفس القدر الذي يحصل عليه الرجال، وبالتدريج اختفت الستارة الدانتيلا.
• • •
يصلنا حديثه التاريخي الشيّق بأناس ووقائع أكثرنا لم يعايشهم/يعايشها، فهو يتذكّر ملك مراكش وباي تونس والرئيس اللبناني بشارة الخوري. وهو يتناول كفاح عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمارين الفرنسي والأسباني وكفاح عُمر المختار ضد الاستعمار الإيطالي بنفس الاقتدار الذي يتحدث به عن نشأة فن المسرح عند الفراعنة القدماء، فتنقل ليلى رستم إحدى قطع الشطرنج خطوة للأمام لتفسح مجالًا أوسع للحوار وتقول له "حيثما توجد حضارة يوجد مسرح"، فيصدّق على كلامها قائلًا "بالتأكيد". إنه يتكلم بطلاقة اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وبدرجة أقل التركية، ومع ذلك حين تسأله ليلى رستم عن عدد اللغات التي يجيدها فإنه يرّد عليها "مش كتير"! يا للهول يا يوسف بك. أما اللغة العربية التي قلتُ في بداية المقال إنها كانت تشعرني بالغربة عن حوارات أفلامه، فإنه عندما تحدّث بها في البرنامج ومَزَجَها في بعض الأحيان بالعامية المصرية والأمثال الشعبية من نوع "الدهن في العتاقي" كان طبيعيًا تمامًا. إنه لا يخطئ.. لا يتلعثم.. لا يدّعي، وانظر معي أيها القارئ الكريم قوله إنه لا يحتاج أن يتعشّق امرأة أمام الناس- يقصد أثناء تمثيل المشاهد الغرامية داخل الاستديو. وفعل يتعشّق على وزن فعل يتعبّد، والمعنى شدة الحب والإخلاص فيه، ويا له من معنىً رفيع. وبعد ذلك يأتي شخص يحاول أن يقنعنا بأنه لا يجيد اللغة العربية لأنه يتقّن اللغة الإنجليزية أو اللغة الفرنسية، فماذا عن يوسف وهبي الذي يتقن أربع لغات أجنبية ويتكلم بلسان عربي فصيح؟. ومن جانب ليلى رستم فإنها لم تكن أقل منه على هذا الصعيد، فهي قادرة على أن تنطق الڤاتيكان Vatican نطقًا فرنسيًا سليمًا وفي الوقت نفسه عندما تستخدم كلمة "لدى" لا تنسى أن تشدّد على حرف الياء.
• • •
جوّال هو في بلاد الله خلق الله، وللشرق نصيب في جولاته. يحفظ للشوام دورهم في النهضة المسرحية المصرية، ولچورچ أبيض بالذات تأثير واضح عليه، يقرّر تكوين فرقة مسرحية في لبنان ليقدم لهذا البلد العزيز باقة من الزهر كما سبق أن أرسل لنا لبنان بذور هذا الزهر. يعرض فنّه على مسرح البيكاديللي في لندن باللغة العربية، ويعتبر أن الفن الصادق لا يحتاج إلى ترجمة، ولقد سبق لفرقة يابانية أن قدّمت عروضها المسرحية في باريس باللغة اليابانية وكان نجاحها منقطع النظير. حاصل على أوسمة من تونس والمغرب وإيطاليا والأردن ومصر، ومن دون أن تكون لدَي أي معلومات عما سأقوله لكنني شعرت أنه لم يكن على وفاق مع حكم الرئيس جمال عبد الناصر، فعندما تطرّق للوسام الذي حصل عليه من مصر نسبه للجمهورية العربية المتحدّة. إنه حامل لقب البكوية، وأحد القلائل الذين تم تسجيل أسمائهم في كتاب الليبرودورو الذي لا يحوي إلا أسماء الذين أسدوا خدمات جليلة للفضيلة، وكان أداؤه دور الكاهن في مسرحية كرسي الاعتراف بطاقة مرور اسمه إلى دفتّي الكتاب.
• • •
إن ساعتّي حلقة ليلى رستم مع يوسف وهبي في برنامج "نجوم على الأرض" كانتا ساعتين من المتعة الخالصة، لكنهما كانتا أيضًا ساعتين من التعلّم والدهشة، ولكلٍ منهما مبرراته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved