سر كامل

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 9 أبريل 2022 - 8:54 م بتوقيت القاهرة

صور صناعة المخللات فى بلدة الخليل القديمة على يد عائلة الشلودى، التى نشرتها وكالة وفا الفلسطينية وتداولتها المواقع والصحف، موضحة أن الأسرة ذاتها اشتغلت فى هذا المجال منذ العام 1936، ذكرتنى على الفور بدكان بقالة صغير إلى جوار منزلنا القديم، فى عصر ما قبل السوبر الماركت. محل تتراص فيه البضاعة على الأرفف، تحت حراسة بائع أنيق يناديه الناس باسمه دون أن يسبقه «عم» أو أى ألقاب أخرى، فلم يكن وقتها لفظ «حاج» يلقى على الناس جزافا. «ربع جبنة رومى يا كامل.. ست بيضات يا كامل.. زجاجة زيت.. حلاوة طحينية يا كامل.. خيار مخلل».. وكامل مبهر فى أدائه خلف «البَنْك» الخشبى، يُلبى الطلبات فى هدوء دون أن ينسى أحدا أو تخونه الذاكرة فتختلط عليه الأمور. لا يعرف التلكؤ أو التباطؤ، بل يقف راسخا كالتمثال، شعره أسود سواد الليل، يلمع من أثر الفازلين مثل أنور وجدى فى أفلام الأبيض والأسود، وقد شذب شاربه بعناية. ينحصر بين جدران ثلاثة صباحا ومساء، يسحب قلم حبر جاف بلا غطاء من جيب قميصه الكاروهات ويجمع الأرقام المدونة على الصفحة، متمما العمليات الحسابية المتتالية بنجاح قبل أن يعلن عن القيمة الإجمالية لمشتروات كل شخص، ثم يضع القلم خلف أذنه.
تتناول أيدى كثيرة قروشا وملاليم قليلة، فقد كنا فى زمن تُعلق فيه التسعيرة على الحائط، وهو دائما يحترم المكتوب، لا يقبل الجدال أو الفصال، ولا يسمح بزيادة فى الكيلة أو فى طبة الميزان. لا تكتسى ملامحه بالتعب ولا يغلب عليه النعاس، رغم وقوفه على قدميه حتى تنطفئ أنوار الدكاكين المجاورة. لا يلتفت إليه أحد ممن اعتاد أحواله، نراه كل يوم دون أن نتطرق إلى حكايته الشخصية، صار فقط هو «كامل» الذى يعرف بعضنا أنه يندرج من أصول فلسطينية، ولا نعلم على وجه الدقة هل يعمل لحساب عائلة الشلودى المكتوب اسمها على لافتة المحل أو ينتمى لأفرادها القادمين من القدس أو على الأغلب من مدينة الخليل التى اشتهر أهلها بالتجارة، إذ تنتشر فيها الأسواق بكثرة. وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى نبى الله إبراهيم الخليل الذى يعتقد أنه سكنها بعد هجرته من مدينة أور السومرية.
• • •
لم نلحظ يوما اختلافا فى لهجة كامل لنتساءل متى جاء إلى مصر، سكان الخليل يقلبون القاف إلى ألف مثلنا، لكن تمتاز لهجتهم بطول النغمة الموسيقية والكلمات، فمدينتهم تقع على الطريق الذى يمر بأواسط فلسطين، رابطة الشام بمصر، مرورا بسيناء. لم نكترث يوما بما يخبئه هذا الوجه الصارم الذى عومل صاحبه غالبا معاملة الرجال منذ أن كان صبيا، فقد كان يعطى انطباعا أن هناك عبئا يجثم على صدره ومع ذلك يتسم بالرضا والقناعة، حاملا سره فى قلبه... غريب أن يمر الكثيرون منا بالرجل بشكل متكرر دون الاهتمام بتفاصيل حكايته. هل كان قلبه ينازع إلى مكانه القديم الحبيب ويمتلئ حسرة كلما تذكر أنه قُذِف به إلى هذا الحى وإلى هذا البلد؟ هل كان ضمن الثمانية آلاف لاجئ فلسطينى الذين دخلوا مصر عام النكبة؟ ربما وصل بعد ذلك بقليل أو بكثير، فقد كان أهالى يافا ومناطقها، ومنها مدن الرملة واللد، هم أول من تدافعوا إلى البحر مع حصار القوات الصهيونية لمدينتهم، إذ كانت المحاصرة على شكل حدوة حصان وتركت بقايا قوات الانتداب البحر دون أن تغلقه، وبالتالى استخدم الهاربون القوارب واللنشات باتجاه قطاع غزة ومصر، وهناك كانت بورسعيد هى أول موطئ قدم للاجئين الفلسطينيين صباح الأيام الأولى من النكبة، حيث وضعتهم السلطات المصرية فى تجمع خاص بهم يدعى «المزاريطة»، ووضعت آخرين فى تجمّع «العباسية» بضواحى القاهرة، حتى منح غالبيتهم حق الإقامة.
تستمع الأجيال بلا ملل إلى هذه القصص من أيام النكبة. وتتكرر مثل هذه المشاهد بين الحين والآخر كما تابعنا عند خروج طوابير العائلات من مخيم اليرموك بسوريا قبل سنوات قليلة، محملين بالقليل من الحاجيات الضرورية. وسبق وقوع هذه الأزمة بأيام إطلاق موقع «هوية» ضمن المشروع الوطنى للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية. يوثق هذا المشروع أصول العائلات الفلسطينية ويرسم شجراتها ويضعها على الموقع الإلكترونى، يتواصل الناس مع فريق العمل لتسجيل بياناتهم كما يتم إجراء مقابلات مع كبار السن، وعلى هذا النحو يمكننا تتبع مسار الأسر المختلفة، فمثلا نعلم أن 45% من اللاجئين الفلسطينيين فى سوريا ينتمون إلى مدينة صفد وقضائها أو نغوص فى الأنساب ونكتشف أن آل الشلودى بالخليل هم فرع من عشيرة الشلالدة أو ربما من تميم من آل مانع ــ وفق مرجع آخر ــ ضمن العائلات التى عمرت بلدة سعير، فى الشمال الشرقى من الخليل، بعد سنة 1792.
• • •
كل عام تقريبا يتردد اسم أحد أفراد هذه العائلة فى وسائل الإعلام، خبر عن مقتل شاب من آل الشلودى إثر طعن فى شجار بمشفى أو فى عملية دهس أو إعدام قرب حاجز أمنى أو أنباء حول هدم بيت لهم ببلدة سلوان.. وحكاية كامل ضاعت ضمن الحكايات، حتى جاءت الصور التى التقطتها سمر بدر لتربط أبناء الشلودى بصنعة المخللات المتوارثة، تُصنع وتُخزن على بعد أمتار من حواجز قوات الاحتلال الإسرائيلى، وتفوح رائحتها من محل لا تزيد مساحته على خمسة أمتار مربعة فى البلدة القديمة لمدينة الخليل. يصطف الأهالى المتجهون للصلاة فى المسجد الإبراهيمى أمام محل المخللات حيث تتراص برطمانات الزيتون الكبير والصغير المحشو بالفلفل والخيار واللفت والمقدوس والجزر، بألوانها المغرية. أتذكر النظام الصارم لدكانة كامل فى القاهرة ونظافتها، أربطهما بميراث عائلته، وأشعر بنوع من الارتياح لأن هناك أشياء لا تتغير بمنطقة كل شىء فيها يتغير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved