كلام عيال

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 9 مايو 2019 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

أمسكت صاحبتنا رزمة الخطابات الصفراء القديمة وراحت تفك الشريط الأحمر الكالح الذي يلفها، تآكل نسيج الشريط وصار يحتاج إلى نوع من الحكمة والحرص في التعامل معه، وهي لها، قالت ذلك لنفسها. فكّت الشريط وأمسكت أول خطاب ثم الثاني فالثالث وراحت تقرأ من اليمين لليسار ومن اليسار لليمين، لكن دون جدوي. ليست هذه هي المرة الأولى التي تسعى فيها صاحبتنا لفك طلاسم الخطابات التي تلقتها من ابنة خالتها من سنين ليس لها عدد، فعلت ذلك مرارا خصوصا كلما استبد بها الحنين إلى أيام زمان، وعندما كانت تفشل في مهمتها كانت تعيد لف الخطابات وتربط الشريط الأحمر المهترئ وهي تكاد تتميز من الغيظ، لماذا أقول تكاد؟ إنها كانت فعلا تتميز من الغيظ، تبّا للعيال ولكلام العيال.

***
عندما تآمرت مع ابنة خالتها على تبادل خطابات بلغة لا يفهمها أحد سواهما، لم يكن يدور بخلدهما أبدا أنه سيأتي اليوم الذي تحاولان فيه إعادة قراءة تلك الخطابات فتعجزان عن ذلك لأنهما ببساطة شديدة نسيتا معاني تلك اللغة الخزعبلية التي ابتكرتاها من بنات أفكارهما. في أحد هذه الخطابات قالت صاحبتنا ردا على ابنة خالتها: "أوسو كالا فوني تو"، ثم أردفت قائلة: "بيكي شاوا سيكا تو!" يا للهول بصوت عملاق المسرح العربي يوسف بك وهبي! ما كل هذه الفصاحة يا ست؟ وما حكاية تو التي تكررت في جملتين متتاليتين، هل يا ترى تو هذه تعني اثنين؟ وبفرض أنها تعني اثنين فعلا فما معنى كل ما قبلها؟ لا يوجد رد، ابنة خالتها أيضا لم يكن لديها رد، وعندما كانت تلّح عليها صاحبتنا كي تعصر ذهنها وتتذكر على أي أساس اخترعتا معا هذه اللغة العجيبة فإنها تتهمها بأنها لا تجد ما يشغلها، وأنها كما لو كانت قد وجدت إجابة على كل الأسئلة المحيرة التي تحيط بها حتى لم يتبق أمامها إلا السؤال عن كلام العيال أيام زمان.

***
أكثر ما كان يضايق صاحبتنا أن ابنة خالتها رغم قربها الشديد منها لا تفهمها أبدا، لا تعرف أن المسألة أعمق بكثير جدا من فك طلاسم خطابات كتبتها صبيتان من سنين وتبادلتا فيها مجموعة من الأسرار العبيطة التافهة، المسألة تتعلق بالبحث عن رائحة تلك السنين وعاداتها وخيرها الوفير بين السطور. وقت أن كتبتا تلك الخطابات كانت الأم تعيش وكانت الخالة أيضا تعيش والآن ذهبتا إلي خالقهما، ولولا هذه الصعوبة في قراءة ألغاز الخطابات لقفزت صورتهما من بين السطور وهي تحب جدا أن تراهما. كانت الأم والخالة تختلفان في ملامحهما الخارجية حتى يحسب المرء أنهما ليستا من نفس الأبوين، لكن طباعهما كانت متقاربة جدا إلى حد التطابق، كانتا من هذا الجيل الذي يؤمن أن تدليل البنات يفسدها وأن ضلع البنت المكسور تعوضه عشرة. هكذا وجدت البنتان نفسيهما تحت الميكروسكوب أربعاً وعشرين ساعة في اليوم الواحد، لا نَفَس .. لا ضحكة .. لا خصوصية، وفكرتا في الكتابة بهذه اللغة التي تشبه الحبر السري لتكون هي طريقتهما الآمنة للتواري عن العيون. وعندما جربتا هذه الطريقة ونفعت كررتاها وصارت هي الأسلوب المعتمد للتمرد على سلطة الأم والخالة.

***
مثل أوراق الكوتشينة راحت تفرش صاحبتنا الخطابات إياها على سريرها وتستنطقها فيما يشبه الاستعطاف. تذكرت تلك الأزمة التي عصفت ببيت خالتها عندما اكتشفت بالصدفة أن ابنتها على علاقة خاصة بزميلها في الفصل فقامت الدنيا ولم تقعد. من وراء قلبها، على الأرجح، هددت الخالة بأن تمنع ابنتها من مواصلة التعليم فانهارت المسكينة وبكت وتعهدت بأن تقطع علاقتها بالجنس الآخر حتى قيام الساعة! فيا ترى أي هذه الخطابات انطوى على فضفضة بنت الخالة وتكلمت فيه بالتفصيل عن أزمة حبها الأول وصبّت جام غضبها على أمها؟ حتى تواريخ الخطابات جري تمويهها فهي إذن لا تسعف في أي شيء ولا تقدم مساعدة من أي نوع. يا أيها الماضي أحّن إليك، لماذا تغلق بابك في وجهي؟ افتح لي لأهرب ساعة أو بضع ساعة ثم أعود، أعدك ألا أظل حبيستك وألا أتمرد على واقعي، فقط افتح لي بابك، لا يفتح الباب.

***
تلف الأيام وتدور وتجد صاحبتنا نفسها في موقف طريف. فعل أحفادها معها ما كانت تفعله هي مع أمها وخالتها لكن مع فارق كبير، تصور الصغار أن اللغة العربية الفصحى التي يتكلم بها أبطال المسلسلات السورية والتركية المدبلجة هي لغة سرية لا يفهمها إلا من يشاهد تلك المسلسلات، وطالما أن الأهل لا يجلسون معهم أثناء المشاهدة فإنهم في الغالب لن يفهموا هذه اللغة العجيبة. معذورون هؤلاء الأحفاد فما يسمعونه أحيانا باعتباره لغة عربية فصحى لا يشبهها في شيء، الكاف تأتي محل القاف والسين بدل الثاء والدال مكان الضاد، والتشكيل كارثة. وهكذا تخابثت الطفلة ذات الأربع سنوات، وكلمت شقيقتها التي تكبرها بعدة شهور وفي ذهنها أنها غامضة: "هلا لهونا بدميتنا الجديدة في غرفتنا؟ "وقبل أن تجيبها شقيقتها التقطت الجدة طرف الحوار وردت عليها قائلة: "لا بأس أيتها الصغيرتين العزيزتين لكن بعد الانتهاء من تناول وجبة الغداء!". نظرت الصغيرتان مشدوهتين إلى الجدة لا تعرفان كيف تمكنت من أن تفهم لغتهما السرية الخاصة، وكيف انكشف أمرهما بهذه البساطة فلم تفوزا بخداع الكبار، وياله من خداع لذيذ!.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved