انتصارات موسكو «البيروسية»
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 9 مايو 2022 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
يشير مصطلح «النصر البيروسى»، إلى ذلك الإنجاز العسكرى، الذى يتأتى إثر كلفة مادية وبشرية فادحة، تجعله إلى نصر بطعم الهزيمة أقرب. الأمر الذى يفسد على المنتصر غبطة النجاح، ويقوض قدرته على تحقيق مزيد من الانتصارات فى مقبل أيامه. وينسب هكذا نصر، إلى القائد العسكرى الإغريقى «بيروس الإبيرى»، الذى أفضى انتصاره على الرومان فى معركة «أسكولوم»، عام 279 قبل الميلاد، إلى تدمير جُل جَيشه، وحرمانه من تحقيق نجاحات عسكرية مدوية، حينا من الدهر.
بنماذج عديدة مماثلة، حفل تاريخ الحروب بين البشر، ويحضرنا منها ههنا، انتصار الزعيم السوفييتى الراحل، جوزيف ستالين، فى حربه ضد فنلندا عام 1939. تلكم التجربة التى تتلاقى، فى نقاط تشابه شتى، مع الحملة العسكرية التى يشنها الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، ضد أوكرانيا، منذ الرابع والعشرين من فبراير الماضى.
فمن حيث الأهداف، انبلجت الحربان من رحم رغبة روسية محمومة فى إعادة رسم الحدود مع كلتا الدولتين، بغرض تأمين الفضاء الجيوسياسى الروسى، وإعادة صياغة المعادلة الأمنية الأوروبية، وتعزيز نفوذ موسكو الاستراتيجى، وتعظيم مكانتها فى نظام عالمى جديد، تراه قيد التشكل. ففيما يعرف تاريخيا بـ«حرب الشتاء»، هاجم ستالين، فنلندا، عام 1939، بعدما رفضت مقترحه بتغيير حدودها مع الاتحاد السوفييتى. فتوخيا منه لتحصين مدينة لينينجراد ضد هجوم ألمانى محتمل، عرض ستالين ضم مناطق فنلندية حيوية للأراضى السوفييتية، واستخدام جزر فنلندية كقواعد عسكرية سوفييتية متقدمة فى بحر البلطيق، مقابل منح الفنلنديين غابة موحلة فى كاريليا السوفييتية.
أما بخصوص أوكرانيا اليوم، فيرنو بوتين إلى ضم شبه جزيرة القرم، وإقليم دونباس إلى روسيا، مع احتلال شريط جنوبى، يتيح تأمين طريق برى، بامتداد ساحل بحرى أزوف والأسود، حتى الحدود الروسية، لربط الإقليمين. فضلا عن السيطرة على إمدادات المياه لشبه جزيرة القرم. ومثلما قصد ستالين تغيير النظام فى فنلندا، لم يخف بوتين رغبته فى الإطاحة بنظام زيلنسكى، وإسناد السلطة إلى طرف، أكثر تفاهما مع موسكو. وما برح الروس يؤكدون «نُبل» أهداف عمليتهم العسكرية الخاصة فى أوكرانيا، سواء لجهة تأمين سكان دونباس، أو حماية الناطقين بالروسية من الإبادة الجماعية، وتطهير البلاد من النازيين الجدد. فضلا عن اتخاذ تدابير لضمان أمن روسيا، كتحييد أوكرانيا استراتيجيا. وما كادت موسكو تعترف، رسميا، باستقلال جمهوريتى دونيتسك ولوهانسك بمنطقة دونباس، قبل ثلاثة أيام من غزو أوكرانيا، حتى عادت وأعلنت عزمها تحرير أراضى الجمهوريتين الانفصاليتين توطئة لضمهما إليها.
لم يكن الأداء العملياتى الروسى على ما يرام فى الحالتين. ففى حرب فنلندا، زج الاتحاد السوفييتى بأكثر من نصف مليون جندى، مدعومين بآلاف الدبابات والطائرات، فى حرب دارت رحاها لثلاثة أشهر ونصف، وأسفرت عن سقوط مئات آلاف القتلى والجرحى السوفييت. وفى حرب أوكرانيا، دفعت روسيا بقرابة نصف ذلك العدد من قواتها. وبعدما لم تٌبل أسلحتها العتيقة بلاء حسنا، جنح بوتين، على استحياء، لاستخدام أسلحة نوعية حديثة، لتحييد سلاحى الطيران والدفاع الجوى الأوكرانيين. لكن الجيش الروسى تكبد خسائر ضخمة خلال ما يناهز مائة يوم، بينما لم يحقق جل أهداف عمليته العسكرية. ومثلما انضم مرتزقة ومتطوعون، من عديد مشارب، للقتال إلى جانب الجيش الفنلندى فيما مضى، تكرر الأمر اليوم مع نظيريه الأوكرانى والروسى.
بعد زهاء مائة وعشرين يوما من القتال الضارى، وضعت حرب فنلندا أوزارها. ورغم نجاح ستالين فى التهام مناطق تفوق تلك التى كان يطالب بمقايضتها، فاقت الخسائر البشرية والمادية السوفييتية المروعة توقعات الجميع. فطوال تلك المدة، تمكن المقاتلون الفنلنديون، الذين ابتكروا ما أسموه، «كوكتيل مولوتوف»، تهكما على وزير خارجية الاتحاد السوفييتى، حينئذ، فياتشسلاف مولوتوف، من تعطيل الهجوم السوفييتى، وتلقين «الجيش الأحمر» درسا قاسيا. وبينما أشاد القادة الأوروبيون، وقتئذ، بشجاعة المقاتلين الفنلنديين، تراءى للنازيين، أن«الجيش الأحمر» لم يكن بالقوة التى كانوا يظنونها. ومن ثم، أقدم، هتلر، على غزو الاتحاد السوفييتى فى يونيو 1941.
إلى حد بعيد، يتكرر السيناريو ذاته، مع أوكرانيا. فرغم تدمير جل بنيتها التحتية، واحتلال مساحات من أراضيها، يتعذر على موسكو إعلان نجاح عمليتها الخاصة هناك، فى اليوم الموافق لذكرى الانتصار السوفييتى على ألمانيا النازية عام 1945. فإلى جانب احتفاظ أوكرانيا بخيرة قواتها فى محيط دونباس، برأسه أطل التباطؤ الروسى فى معالجة أخطاء معارك كييف والشمال الشرقى الأوكرانى. ورغم تعديل استراتيجيته، وتغيير تكتيكاته، واستبدال قياداته الميدانية، لا يفتأ الجيش الروسى يعانى مكامن خلل عدة، أبرزها: المركزية المفرطة لآلية اتخاذ القرار العسكرى، ما يحرم قادة المستويين المتوسط والأدنى حرية المبادرة والعمل المستقل، كما يكبل تراتبية منظومة القيادة والسيطرة، ويقلص مرونة تعديل الخطط وتبديل التكتيكات. وقد خلَف استمرار المعضلات اللوجيستية، أصداء سلبية على الأداء الميدانى والروح المعنوية للمقاتلين، المجهدين أصلا من المرحلة الأولى للحرب. ولئن اضطر، ستالين، على وقع نتائج الحرب الفنلندية، إلى إعادة هيكلة «الجيش الأحمر»، فقد أججت حرب أوكرانيا، حاجة بوتين الملحة لمواصلة تطوير الجيش الروسى، ومراجعة استراتيجية تغليب الكم على النوع، بكل ما تستتبعه من خسائر بشرية ومادية مفجعة.
بدعم عسكرى غربى كثيف، استقوت فنلندا فى مواجهة السوفييت. فبينما التزمت ألمانيا الحياد، عملا باتفاقية عدم الاعتداء، التى أبرمتها مع ستالين فى أغسطس 1939، قدمت بريطانيا وفرنسا، عشرات الطائرات وقاذفات القنابل للفنلنديين. كما زودتهم المجر، وإيطاليا، والدنمارك، بالسلاح والمتطوعين، وأمدتهم النرويج بالسلاح، وقامت بتدريب عدد من طياريهم المقاتلين. ورغم حيادها، أرسلت السويد ثمانية آلاف متطوع لمساندة الفنلنديين، الذين خصصت ثلث عتادها الحربى، لمؤازرتهم. وأمريكيا، تشكلت لجان لجمع التبرعات لنصرة الشعب الفنلندى، فيما امتنعت بعض الشركات عن بيع منتجاتها لموسكو. أما اليوم، فلم يحل حرص الغرب على تجنب الصدام المباشر مع روسيا، دون إغداق الدعم العسكرى الأطلسى النوعى على أوكرانيا. بما يعزز قدرتها على المقاومة والصمود، ويعيق الحسم الروسى السريع والناجز للعمليات، كما يغرق موسكو فى حرب استنزاف ممتدة ومُهلكة. حيث خلص الاجتماع العسكرى، الذى عقده وزير الدفاع الأمريكى، لويد أوستن، بقاعدة، رامشتاين، الجوية بألمانيا، بمشاركة نحو 40 دولة، إلى تبنى برنامج غربى موسع، لتزويد أوكرانيا بمنظومات تسليحية متطورة، بغية إنهاك روسيا وردعها عن تهديد جيرانها.
أثار الغزو السوفييتى لفنلندا استياء المجتمع الدولى، الذى اتخذ، حينها، حزمة تدابير لعزل موسكو. فبعد إدانتها إياه، أنهت منظمة عصبة الأمم عضوية الاتحاد السوفييتى. بدوره، شجب، بيوس الثانى عشر، بابا الفاتيكان، حينها، ما اعتبره سياسات عدوانية من قبل الاتحاد السوفييتى وزعيمه. ولقد تكرر الشىء نفسه فى حرب أوكرانيا، التى أدانها الغرب، وانتقدها بابا الفاتيكان الحالى، فرنسيس، الذى ألغى اجتماعا، كان مقررا، بالبطريرك، كيريل، بابا الكنيسة الأرذوكسية الروسية، المعروف بموالاته للكريملين، وتأييده لغزو أوكرانيا. وبعد يومين فقط من بدء الغزو الروسى لأوكرانيا فى فبراير الماضى، حال استخدام روسيا حق «الفيتو»، دون إصدار مجلس الأمن الدولى قرار إدانة، اقترحته الولايات المتحدة وألبانيا. لكن فى الثانى من مارس الفائت، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرارا أوروبيا، يستنكر العدوان الروسى، ويؤكد احترام سيادة أوكرانيا، واستقلالها، ووحدة أراضيها، ومياهها الإقليمية. كما يطالب روسيا بسحب جميع قواتها من هناك، على نحو فورى، وكامل، وغير مشروط، ويدين إعلانها رفع حالة التأهب النووى. ورغم كونه غير ملزم، اعتبره الغرب قرارا تاريخيا.
دأبت كييف على المطالبة بحرمان روسيا من حق «الفيتو»، وتجميد عضويتها بعدد من المنظمات الدولية. وقد تمخضت تحركاتها عن تعليق العضوية الروسية بمجلس حقوق الإنسان الأممى، وشروع منظمة السياحة العالمية فى إجراء مماثل، لكن موسكو استبقت القرار بإعلان انسحابها من المنظمة. وبينما أكدت واشنطن سعيها لإدراج روسيا ضمن لائحة الدول الراعية للإرهاب، أبدى الرئيس بايدن، على هامش قمتى دول الاتحاد الأوروبى والناتو، ببروكسيل، فى مارس الماضى، تأييدا للدعوات الأوكرانية والغربية باستبعاد روسيا من مجموعة العشرين. بيد أنه رهن هكذا قرار بمواقف باقى الأعضاء.
يوما بعد آخر، تشتد وطأة التداعيات الموجعة للعقوبات الغربية، غير المسبوقة، على روسيا. فخلال قمتهم الافتراضية الشهر المنصرم، جدد قادة مجموعة السبع الكبرى، والاتحاد الأوروبى، وحلف الناتو، التزامهم تكثيف الضغوط على الكرملين، وتوسيع عزلة موسكو دوليا، والإمعان فى استنزافها، عبر تغليظ العقوبات عليها، تزامنا مع تكثيف الدعم العسكرى النوعى لكييف. وقد تواكب ذلك المناخ التصعيدى مع تيبس أقنية الحوار والتعاون بين موسكو والناتو، وتجميد الحوار الروسى الأمريكى حول الاستقرار الاستراتيجى، علاوة على تراجع معامل الثقة بين بوتين والغرب، إلى أدنى مستوياته، منذ الحرب الباردة.