قراءة «عربية» لأسباب الانبهار بخطاب باراك أوباما فى القاهرة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 9 يونيو 2009 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

 حرم الرئيس الأمريكى باراك أوباما «العرب» من التباهى بآخر ما تبقى لهم من «مزايا» وهى «الفصاحة».. فلقد تبدى، حين وقف أمامهم خطيبا فى جامعة القاهرة التى عرف منبرها بعض من أعادوا الاعتبار إلى الأدب العربى، أفصح ليس فقط من حكامهم الذين لم تعرف عنهم البلاغة، بل كذلك من معظم كتابهم ونقادهم وشيوخهم ملوك المنابر!

وهو كان صريحا إلى حد الفظاظة حين أعلن قبل أن يباشر «رحلته الشرقية» أنه آت لمخاطبة المسلمين، لا العرب، وأنه اختار القاهرة كمنبر لا كمركز للعالم العربى أو حتى للعالم الإسلامى، مفاضلا فى هذا الخيار بين «الأزهر الشريف» وبين «الدرعية» منطلق الدعوة الوهابية التى على ركائزها أقيمت المملكة العربية السعودية بحد السيف.

وكان طبيعيا أن تبهت القضايا ذات الطابع القومى (أى العربى) فى حديث عزز وبقوة البعد السياسى فى «الحوار بين الأديان»، الذى استحدث مؤخرا لتمويه الأبعاد الوطنية (الفلسطينية) والقومية (العربية) فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
وليس ذنب باراك أوباما أن يكون العرب قد استقالوا من عروبتهم فغدوا أشتاتا بلا هوية جامعة، لأن الدين ــ هنا ــ ليس عامل توحيد بالمعنى السياسى، بل إن التركيز عليه يخدم الدعوة المستجدة إلى اعتبار إسرائيل دولة لليهود، فيها بعض الأقليات غير اليهودية، كما «الأقباط فى مصر والموارنة فى لبنان».

فلا تكفى القيافة العربية (ولبس عباءة وتقر عينى!! ومعها الكوفية والعقال) لكى نثبت للرئيس الأمريكى الضيف أنه فى بلاد عربية بهمومها وقضاياها وطموحاتها وعلاقاتها المعقدة مع بلاده ــ الإمبراطورية الكونية.

بهذا المنطق يصبح بديهيا أن يستهل الرئيس الأمريكى الضيف حديثه أمام مضيفيه العرب المزدهين بوجوده بينهم، والمبهورين بوسامة طلعته السمراء وإشارته السريعة إلى شىء من الإسلام فى نسبه، باستذكار «المحرقة» فى ألمانيا النازية ضد اليهود لتبرير «حقهم» فى إقامة دولتهم على أرض فلسطين، البعيدة آلاف الكيلومترات، وعلى حساب شعبها العربى الذى كان فيها دائما ومنذ آلاف السنين.

ليس أبهى من هذا التبرير الإنسانى لجريمة لم يشهد لها التاريخ مثيلا: طرد شعب كامل من أرضه بقوة المذابح المنظمة والتهجير الجماعى بنسف البيوت وقتل الرجال والنساء والأطفال، وتهديم البلدات والقرى، لإحلال جماعات من البشر كانت مستقرة فى أوطانها البعيدة ولها حقوقها فيها.. ومع تفجر المنطقة التى زرع فيها الكيان الغريب بالقوة، يأتون ليطالبوا أهلها الذين كانوا دائما أهلها، والتى تزلزلت كياناتها واضطربت أوضاعها وضاعت عن طريقها إلى مستقبلها، ليطالبوها بأن تقدم حلا لمسألة لم يكن لهم رأى فيها، ولا هم كانوا قادرين على تجنب ما نجم عنها من كوارث.

***

لنعترف: لقد حقق الرئيس الأمريكى نجاحا غير مسبوق فى إطلالته العربية، فأسقط بضربة واحدة الصورة التقليدية للأمريكى البشع والتى جعلها سلفه جورج دبليو بوش حقيقة نهائية فى أذهان العرب والمسلمين ومعهم سائر الشعوب فى مختلف أرجاء الدنيا.

جاء المبشر الأسمر بملامحه الوسيمة وطلاقته المبهرة وحضوره اللافت مستهلا رحلته بالكلمة ذات الرنين الدينى «السلام عليكم» بديلا عن الكاوبوى المفترى على الشعوب بحروب التدخل المدمرة للكيانات وللوحدات الوطنية «العراق نموذجا»، المتورط فى دعم حروب التوسع الاستيطانى الاستعمارى المنهجى لإسرائيل فى الأرض الفلسطينية وما جاورها «حتى لا ننسى حرب يوليو فى عام 2006 ضد لبنان». وهو قد باشر حديثه بما يشبه النقد الذاتى لسياسة بلاده ضد الشعوب الإسلامية، معترفا ببعض عيوبها، طالبا من ضحاياها مساعدته على إصلاحها.

ولأن العرب ــ فى صورة حكامهم ــ منقسمون، مفككون، يفتقدون فى أنفسهم الجدارة لأن يقرروا فيحموا أرضهم ومصالحهم المشروعة، فإن مثل هذا الخطاب ينعشهم، إذ يعيد إليهم بعض الاعتبار.

ربما لهذا ظل خطاب الرئيس الأمريكى بلا مقابل عربى: كان العرب فى موقع المتلقى، المصفق، المهلل، المكبر، المبهور.. أو المعلق فى أحسن الحالات!

لم يعرف المواطن العربى ماذا قال قادتهم للرئيس الأمريكى ردا على ما سمعوه منه، وما إذا كانوا قد اقتنعوا بما عرضه عليهم، وكفى المؤمنين شر القتال، أم إنهم ناقشوه فاضطروه لأن يعدل أو يبدل عندما سيعمد إلى صياغة خطابه على شكل مقترحات أو مشروع حلا لأزماتهم التى يبقى عنوانها «إسرائيليا» طالما استمر تغييب حقوق الشعب الفلسطينى البديهية فى أن تكون له دولة حقيقية وقابلة للحياة ولو على بعض البعض من أرضه، التى تذيب إسرائيل ما تبقى منها عبر سلسلة المستعمرات الاستيطانية التى تستقدم لها آلاف المستوطنين من أربع رياح الأرض فتخلق أمرا واقعا يصعب تغييره إلا بمسلسل من الحروب التى لا تنتهى؟.

وليس سرا أن كثيرين من أهل النظام العربى باتوا يضيقون ذرعا بالقضية الفلسطينية، وهم مستعدون للمساعدة على «التخلص» منها إذا ما قدم لهم «عرض لا يمكن رفضه»، بشرط أن يضمن لهم ــ مع السلامة ــ إشاعة الوهم بأن حلا مقبولا هو فى الطريق إلى شعبها المشرد.. قبل أن تصادر إسرائيل آخر دونم من الأرض التى كانت من حصة الفلسطينيين فى مشروعات «الدولتين» التى صار الحديث عنها مضجرا، مع غياب الجدية (فضلا عن القوة) اللازمة لتحقيقه.

إذن فقد نجح أوباما وسقط العرب مرة أخرى!

وهم لم يسقطوا فقط من خطابه ليحل محلهم «المسلمون»، وهم غير العرب، وليست قضية فلسطين ــ على قداستها ــ قضيتهم المركزية الضاغطة على أنظمتهم المتهاوية وعلى طموحات شعبوهم إلى التقدم والمنعة والديمقراطية.. بل إنهم أسقطوا أنفسهم من احتمال الرد عليه بما يحمى ويصون الحد الأدنى من حقوقهم التى عنوانها فلسطين ومصير شعبها.
يمكن لهم أن يدعوا أن الرئيس الأمريكى قد أشار إلى «المبادرة العربية» بغير أن يتبناها، ثم يفترضوا أنه لم يسقطها كمشروع قابل للنقاش ويمكن لهم أن يتعزوا بردود الفعل الإسرائيلية الغاضبة والشاجبة لأطروحات باراك أوباما، حتى وهى مجرد عناوين ولم تتخذ بعد الصياغة الكاملة لخطة عمل سياسية تتبناها الإدارة الأمريكية وتعمل لتحقيقها.

لكن ما لا يجوز أن يغيب عن الذهن أن العرب غير حاضرين بالحد الأدنى من التماسك أو القوة أو التضامن اللازم لتحويل ذلك الخطاب المبهر فى صياغته إلى خطة عمل جدية تلتزمها إدارة أوباما كسياسة رسمية محصنة بما يكفى لمواجهة الاعتراضات الإسرائيلية الجدية. خصوصا أننا نعرف بالتجربة المكلفة أن أية إدارة أمريكية ليست مستعدة لأن تخوض صراعا مفتوحا مع إسرائيل للدفاع عن حق لا يبدو أن أهله (العرب) مستعدون للقتال من أجله، وبكل ما ملكت أيمانهم.

من السذاجة طبعا أن نفترض أن إدارة أوباما ستذهب إلى الحرب مع إسرائيل فى حين أن بعض أهم الدول العربية قد عقد معاهدات صلح معها، وأن البعض الآخر من الدول ذات الأهمية يواصل طرح عروض الصلح مع الوعد بأن يستقدم إليه أيضا الدول الإسلامية، إذا ما وافقت إسرائيل على مناقشة، مجرد مناقشة المبادرة العربية للسلام التى طرحت على الطاولة قبل سبع سنوات فلم تحظ ولو بقراءة إسرائيلية جدية تمهد ــ أقله ــ لمناقشتها.

إن المبالغة فى التصفيق لخطاب باراك أوباما تكشف هزال الخطاب العربى الرسمى، وتكشف مدى التهافت العربى على أى عرض أمريكى يقدم، وبالتالى يكشف عمق اليأس العربى من النظام العربى الذى لم يعد يملك ما يقوله لشعوبه التى ضاع منها حاضرها فباتت أعجز من أن تستنقد مستقبلها.

وهناك مفارقة لا يمكن إغفالها : إن حكام العرب قد كفوا، ومنذ زمان طويل، عن مخاطبة شعوبهم بصراحة ولو موجعة، وعن إطلاعهم على حقيقة مواقفهم من مشكلاتهم وأزماتهم المستعصية..

وهم قد رحبوا بخطاب الرئيس الأمريكى لأسباب عدة لعل أبرزها أنهم استمعوا إلى من يستذكر إنجازات أجدادهم فيشيد بإسهامهم فى صنع الحضارة الإنسانية، فرأوا فى ذلك تعويضا عن عجزهم فى الحاضر عن الإكمال، وهنا بالضبط مكمن العيب فى حكامهم الذين لا هم صنعوا حاضرا يليق بشعوبهم ولا هم حفظوا من الماضى إلا الآثار التى يمكن للسياح أن يتصوروا إلى جانبها، فتتجلى المفارقة كالفضيحة: هم صناع المستقبل ونحن فى الماضى ومنه، حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا!

وبديهى أنه لا السلطان حسن (المملوكى) ــ ولا خوفو (الفرعونى) ــ قادر أو هو مطالب بإنجاز ما يفترض أن ينجزه حكام اليوم، ولبلادهم مباشرة قبل الحديث عن بلاد سائر العرب؛ وعنوانها فلسطين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved