الشعور بالوحدة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 9 يونيو 2010 - 10:27 ص بتوقيت القاهرة

 كثيرون، أغلبهم نساء، يشكون الشعور بالوحدة. وإن سألتهم كيف يكون شعورهم بالوحدة، تعددت إجاباتهم وتباينت. ستسمع عن الضجر والملل و«الزهق» والرتابة والعزلة. ولكنك ستسمع أيضا، وهنا يكمن الخطر، عن تعاسة وصعوبة فى التنفس ورغبة فى البكاء وتوتر فى الأعصاب. أقول هنا مكمن الخطر لأن الشعور بالوحدة إن صار مزمنا جلب لصاحبه أو صاحبته الاكتئاب وأمراضا نفسية أو عصبية أخرى.

جربت الشعور بالوحدة فى زياراتى المبكرة لمدن كبيرة. جربته فى نيويورك ولندن وهونج كونج وطوكيو. وجربته وأنا جالس على مقعد فى مسرح كبير أشاهد عملا دراميا أو أستمع إلى عزف موسيقى ولا أحد إلى جانبى أعرفه يشاركنى استمتاعى بالعمل الدرامى أو العزف الموسيقى.

وأذكر عدد المرات التى ادرت فيها رأسى نحو الجالس أو الجالسة إلى جوارى عسى أن أغريه أو أغربها «بنظرات» نتبادلها تحمل معنى من معانى التضامن الإنسانى فى التعبير عن الاستمتاع بشىء ما. أذكر هذه اللحظات وغيرها ففيها عرفت قدر الألم الذى يمكن أن يتسبب فيه الشعور بالوحدة فى بعض حالاتها. عرفت أيضا أن اجتماع أسباب الرضا والسعادة بدون توافر القدرة أو الظرف المناسب للاستمتاع بهما شرط كاف لجلب التعاسة وطرد السعادة.

كنت أظن، وقتها، أن وجود شخص أيا كان، معى فى اللحظات التى أشعر فيها بالوحدة، يمكن أن يخفف من هذا الشعور إلى أن علمت علم اليقين أن الشعور بالوحدة يتفاقم ويزداد الألم المصاحب له إذا اجتمع شخصان كلاهما يعانى الشعور بالوحدة. لن يخفف شخص يشعر بالوحدة من شعور الوحدة لدى شخص آخر، النصيحة المثلى إبعادهما عن بعضهما البعض.

يصف بعض النساء هبوط المساء بأقسى الأوصاف. يشكون من أن فى بداياته يتسرب الشعور بالوحدة ربما لأن مهام اليوم التى شغلت تفكيرهن تكون قد أنجزت، وبناتهن وأبناؤهن إن كانوا صغارا ذهبوا للنوم وإن كانوا كبارا انشغلوا بأصدقائهم. لم يتبق للزوجات عند حلول المساء إلا الفراغ يثير ظنونهن ويجدد مخاوفهن ويكشف عن مخزون لا يفنى من الملل.

ينتظرن عودة الأزواج على أمل أن يكون عندهم من حكاوى العمل والطريق ما يملأ بعض الفراغ ويشغل العقل ويزيل الوساوس والظنون. بعضهن يرفض الاعتراف بأن رجالا بأعداد متزايدة أصبحوا يفضلون صحبة مقدمات ومقدمى برامج الحوار فى التليفزيون عن صحبة زوجات أو صديقات لم يسعفهن الحظ بفريق من معدات ومعدى البرامج يساعدونهن فى إعداد برنامج للسهرة فى البيت. إحداهن قالت «لا شىء، بل لا شىء على الاطلاق، يمكن أن يسىء إلى علاقات الزوجية أكثر من زوجة تشعر بالوحدة وزوج يريد الوحدة».

يلقى الكثيرون باللائمة على الثورة الإلكترونية التى كثفت الاتصالات بين البشر إلى حد لم تعرفه البشرية من قبل، إلا أنها اتصالات تحدث فى الفضاء عبر وسائل شتى حلت محل الاتصالات التى تحدث عبر اللقاءات الشخصية. كانت نتيجة هذه الثورة طفرة فى عدد من يشعرون بالوحدة وفى عدد من فقدوا مهارات اجتماعية إنسانية.

أطفال هذه الأيام يفقدون بسرعة مدهشة بعض مهارات الاتصال مثل استخدام لغة الجسد ونبرة الصوت وتعبيرات الوجه ولغة العيون ومهارات اللمس والهمس والارتماء فى الأحضان والإيحاء بالانجذاب أو النفور، كلها وسائل اتصال لم تعد تتقن استخدامها الأجيال الجديدة التى تبدع فى استخدام وسائل اتصال إلكترونية. أخشى أن تكون النتيجة أجيالا وراء أجيال يهددها جميعا الشعور بالوحدة.

بدأنا بالفعل نتصرف ككائنات إلكترونية وننسى أننا فى الأصل وبالأحاسيس كائنات بشرية.
ينتشر الشعور بالوحدة إلى درجة أن بعض العلماء يحذر من أنه يهدد بأن يصبح وباء لا يفرق بين عناصر فى المجتمع أو بين ألوان البشرة أو كبار وصغار، وإن كانت إحدى التجارب التى أجريت على 2200 حالة أثبتت أن الشعور بالوحدة يصيب النساء أكثر مما يصيب الرجال.

تشهد دراسات أكاديمية على أن الشعور بالوحدة قد يدفع البعض إلى ممارسة أعمال إضافية فى أوقات خارج مواعيد العمل، وقد تبين أن هذه بدورها تولد شعورا أعمق بالوحدة. تشهد دراسات أخرى على أن 47% من النساء اللاتى يشعرن بالوحدة يصبن بالاكتئاب مقابل 36% من الرجال.

وتوصلت دراسة فى جامعة شيكاغو إلى أن إناث الفئران التى تعيش منفردة لفترة طويلة وتظهر عليها علامات الشعور بالوحدة ترتفع فى أجسامهن نسبة الهرمونات المثيرة للقلق ويصبن بسرطان الثدى. ويقول علماء نفس إن أخطر الحالات المرضية الناتجة عن الشعور بالوحدة هى التى تصيب الأطفال، فالشعور بالوحدة لدى الأطفال يثير نزعات انتحارية ورغبات فى إيذاء النفس.

لا توجد حلول سريعة لمشكلة الشعور بالوحدة. ومع ذلك تظل راسخة ثقتى الكاملة فى ضرورة العودة إلى تكثيف العلاقات الإنسانية المباشرة وبخاصة العلاقات العاطفية والأسرية وتنويع مصادر الترفيه وقتل الوقت وإحياء مفاهيم الصداقة العميقة.




هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved