الكل يغنى لنا

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 9 يونيو 2012 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

وصلتنى الشهر الماضى دعوة لحضور ورشة عمل فى عمان، يشارك فى فاعلياتها عدد من المهتمين والمشتغلين بالصحة النفسية فى المنطقة العربية. لم تكن تلك الورشة هى الأولى من نوعها بالنسبة لى، فقد سبق أن شاركت فى لقاءات أخرى مماثلة، نظمتها المجموعة نفسها، التى تضم أعضاء وعضوات من فلسطين والأردن وسوريا ولبنان ومصر.

 

●●●

 

قبل الخامس والعشرين من يناير 2011، وهو تاريخ فاصل فى شكل تلك اللقاءات ونوعية المحاور التى تناقشها، كانت الجلسات تدور حول الصحة النفسية للشباب والأطفال فى الدول العربية، ونوعية الوسائل والأدوات التى يمكن من خلالها دعم هذا المفهوم، وكذلك المؤثرات والظروف التى قد تحول دون الوصول إليه وتحقيقه بشكل مثالى، فى جميع المرات التى تطرق فيها الحديث إلى الحال فى مصر، كان الأسى يسود الجلسة ويصبغ بقتامته العبارات والنسب والإحصاءات؛ قلق من الأوضاع العامة شديدة التردى، وخوف من فترة الانتظار السلبى التى طالت حتى كادت تصبح مؤبدة. على مدى أيام اللقاء الذى سبق الصحوة المصرية، كان الجالسون والجالسات حول المائدة العريضة يعربون جميعا عن رجاء وحيد، بدا فى حينه بعيدا عن التحقق؛ أن تنتفض مصر وتنفض استسلامها وتنصب قامتها من جديد، جملة سمعتها تتكرر من الحاضرين مرارا على اختلاف انتماءاتهم: «مصر أم الدنيا، لو قامت مصر بيقوموا العرب»، كنت أتابع سياق الحديث تارة مندهشة لهذا الإصرار على وضع مصر فى موضع القلب والقيادة رغم كل شىء، وتارة أخرى خجلى منقبضة الصدر لسوء ما أراه وأعيشه كل يوم. قررت الرفيقة الفلسطينية  ــ المتفائلة دوما ــ أن تقف ملوحة بقبضتها فور انتهاء إحدى حلقات النقاش حامية الوطيس، وأن ترفع صوتها لتغنى بابتسامة «مصر يامه يا بهية»، انضم لها للتو جميع الحاضرين يغنون بمزيد من الحماسة والابتسامات العريضة، بينما أحنيت رأسى أنظر للأرض وأنا لا أجد لغنائها سببا، استقر داخلى منذ فترة ليست بقصيرة أن هذا الانحدار الذى صار إليه الوطن، لا يمكن أن يجلب سوى اليأس والقنوط أو السخرية والغضب، ظننت أن مصر ربما لم تعد الأم أو حتى الأخت القريبة والسند، بما يرتكبه نظامها السياسى من أخطاء وسقطات متتالية. انتابتنى فى نهاية أيام اللقاء الثلاثة أحاسيس شتى، سادها ذاك الشعور بالقهر والذنب والعجز، لايزال المتشبثون بأمل الصحوة، والواثقون منها وفينا موجودين، قابضين على قناعاتهم، لا يفلتون الأمل من بين أيديهم رغم تعاقب الأحداث التى تخزلهم مرة تلو المرة. فى لقائنا التالى، استقبلنى أعضاء المجموعة الذين صاروا أصدقاء قريبين، بأحضان وقفزات وصراخ: «مصر عملت ثورة.. مصر عملت ثورة»، ووجدتنى أقفز معهم وأصرخ مثلهم وأضحك دون توقف وتدمع عيناى.

 

أثناء عمليات الضرب والكر والفر، ومحاولات استرداد الثورة الناقصة فى معارك شارع محمد محمود، ومجلس الوزراء، وشوارع نوبار والشيخ ريحان ومنصور وجميع الطرقات المحيطة بوزارة الداخلية، ظل هؤلاء الأصدقاء يتابعون أولا بأول ما يجرى فى مصر، وكأنه يدور فى محيط منازلهم، يداومون على الاتصال ويطلبون الصمود، ويتقوتون مثلنا معتصمين ومضربين على أغانى الشيخ إمام وأشعار فؤاد حداد ونجم، ويرسلون منها مدادا على مواقع التواصل الإلكترونية فيتشاركها الكل، ويجعلونها أيقونات للثورة. 

 

●●●

 

تمر الأسابيع والشهور ولا يتوقف الزحف الثورى، لا تفتر الدماء ولا يهن العزم، تصبح الرؤية أكثر وضوحا، وتتكشف النوايا وتتبلور المطالب جلية محددة، كما يلوح الطريق إلى نوالها؛ صعبا لكنه ليس بمستحيل. اليوم أدرك أن الرفاق الذين يستكملون عملهم الدءوب فى ضوء مستجدات «الربيع العربى»، ويبحثون عن طرق تدعيم الشعوب المنتفضة وحمايتها من الانكسار، ويعملون على خلق البدائل التى تكفل لها إنجاز الأهداف التى هبت من أجل تحقيقها، أدرك أنهم كانوا يرون أفقا أرحب بكثير مما رأينا، ومما رأى المتفائلين منا، وأن ثقتهم فى أغلب المرات كانت أقوى من كآبتنا، وأن فى عقولهم لم تكن هناك سوى مصر التى تخزل المتشككين والمتقاعسين، والتى تدفع المثبطين من همتها جانبا وتفضح نكوصهم.  أطمئنهم إلى أننا قد أفرزنا فى أيام معدودة أجيالا شبت عن الطوق وكفت عن الخوف واللامبالاة، وأن التعثر فى طريق الحرية لن يوقفنا ولن يجعلنا نتراجع عن تحطيم الحواجز والقيود.

 

وسط محاولات تجرى لإعادة إنتاج نظام قمعى جديد، ووسط اختياران يكرس كلاهما حكما استبداديا عقيما قد يدفعنا خطوات إلى الوراء، وفى خضم الصراع بين القوى الرجعية والتقدمية، ودعوات الرفض والحشد لاستكمال النضال الثورى وتلافى الأخطاء، تأتينى الدعوة إلى لقاء جديد فى عمان، لكننى لشديد الأسف لا أتمكن من تلبيتها، أغيب عن المشاركة هذه المرة لعدم قدرتى على السفر ورغبتى فى الوجود داخل الأحداث، أجدنى عازفة عن الانشغال بغير عملية المخاض المتواصلة التى تحاول مصر من خلالها أن تسترد عافيتها وروحها كاملة دون نقصان.

 

●●●

 

أثق أن الزملاء والأصدقاء يتابعون ما يجرى الآن لحظة بلحظة ويترقبون الولادة العسيرة، كما أثق أيضا أنهم لا يزالون يغنون لمصر البهية القادمة على الطريق، وأعترف بأننى لم أر فى أى مكان آخر، أناسا يغنون بهذه الفرحة والحمية لوطن لم يولدوا فيه، ولا يحملون جنسيته فى أوراقهم الرسمية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved