الأستاذ جمال

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 9 يونيو 2013 - 10:04 ص بتوقيت القاهرة

الحديث المفضل لدى الأهالى بمناسبة موسم الامتحانات كان يدور غالبا عن المناهج وأخطائها أو دروس المراجعة، ويتردد على ألسنة الأمهات بصفة خاصة «عندنا امتحان كذا اليوم»، وكأنهن رجعن إلى صفوف المدرسة وهن من سيتم اختبارهن.

 

كذلك لا يكف البعض عن الشكوى من غلاء سعر الدروس الخصوصية التى أصبحت شرا لا بد منه حتى بالنسبة لتلاميذ الابتدائى، نظرا لتردى مستوى التعليم وضعف كتب الوزارة..

 

كلها مشكلات حفظناها عن ظهر قلب وتعايشنا معها على أنها جزء من واقع مصرى صميم وأليم، وجميع الأطراف تتحجج بقلة الإمكانات، بل ولم نعد نملك سوى التندر وتبادل النكات حول مستقبل التعليم سنة 2020، على أساس أنه خلال أعوام قليلة ستكون أسئلة الامتحان على النمط التالى: «ضع علامة (إشطة) أو علامة (فاكس)، أمام العبارات الآتية يا زميلى».

●●●

 

عندما أستمع لمثل هذه الروايات أترحم على أساتذة معظمهم رحلوا عن عالمنا ربما، فقد كانوا البقية الباقية من جيل نال تعليما محترما، وكانوا حريصين على أداء واجبهم التربوى للنهاية، حتى لو لم يلتزموا بتلقين المناهج التى فرضتها عليهم الوزارة كما هى لعدم رضائهم عنها أو لدفعهم بعدم دقتها، من بين هؤلاء الأستاذ جمال ــ مدرس اللغة العربية فى الصف الثالث الإعدادى.

 

لم نعرف سوى اسمه الأول، وهكذا كنا نناديه، لذا أعتذر لو أننى أبخسه حقه بعدم ذكر لقبه أو اسمه الثانى. أستاذ درعمى (أى خريج دار العلوم) يملك ناصية اللغة، لا يكمل المنهج غالبا، بل يأخذ منه نماذج يركز عليها ويمحص فيها ويتفحص، فلا يترك حرفا أو بيتا، شعرا أو نثرا، قرآنا أو حديثا، إلا وتعرض لمعانى الكلمات والصور البلاغية والإعراب والشرح المفصل، إذ كان يصل أحيانا شرح البيت الواحد إلى خمس عشرة صفحة، يمليها علينا فى كراسة خاصة بعيدا عن الكتاب المقرر، لاستذكارها.

 

ظل يكرر على مسامعنا طوال العام أن من ألفوا الكتب ليسوا أكثر منا ذكاء، وأننا قادرون على إعمال عقولنا نحن أيضا لنكتشف فى النصوص أشياء لم يتعرضوا لها فى الكتاب، فالموضوع وما فيه هو تذوق اللغة والوقوف على أصولها، ما يؤدى قطعا إلى الفهم والتفسير.

 

تعلمنا معه وظيفة النحو، فعندما يصبح للكلمات موقع إعرابى فى الجملة تتضح الرؤية، ولم تعد القواعد بفضله طلاسما، بل أدوات نصب وجر ورفع نحفظ ألحانها كما علمنا إياها، وكان يصر أن نرددها مع الاحتفاظ باللحن حتى لا ننساها مدى الحياة، فقد كان يعلم أنه سيرحل، وستبقى كراسته لدى العديد من تلاميذه فى مكان أمين، فيها تقريبا كل قواعد اللغة العربية، من المقرر وخارجه، فبالنسبة له معرفة اللغة لا تتجزأ ولا ترتبط بمنهج الوزارة.

 

فى البداية كانت مجاراته ليست بالأمر اليسير، ثم اعتدنا اللعبة واختبرناها، واستمتعنا بأسلوبه المرح الفاهم لعقلية المراهقين، وتجرأنا على أن نختلف مع واضع المنهج وعلى مطارحة مدرس الفصل الحجة بالحجة، فمن الجائز أن يكون لنا وجهة نظر مختلفة فى النص وعلينا أن نشاغب لإثبات صحة ما نقول، لربما اقتنع، لأنه كان يحترم النبوغ والذكاء. كانت إدارة المدرسة تسمح له بأن يفعل ما يريد داخل الفصل، لأنها واثقة من النتيجة، فالبنات كن يحصلن على أعلى الدرجات بفضل توجيهاته.

 

وبعد سنوات سمعت أن المدير الجديد استغنى عن خدماته، مدير تقليدى للغاية لم يعجبه المدرس الذى لا يلتزم بالمنهج ويعلم الفتيات التمرد على الكتاب «الوزارى» الملىء بالأخطاء، وكانت بالطبع الخسارة كبيرة لمن لم يحالفهم الحظ ويتلقوا الدرس على يديه.

●●●

 

المشكلة ليست منشآت ضخمة وفناء وإمكانات تقنية، ولكن فى الأشخاص والعقول، فقد نكتفى بمدرس على نمط الأستاذ جمال ويكون الدرس فى الهواء الطلق أو فى حجرة فوق أسطح أحد المنازل، لا يهم..

 

فطنت مصر لذلك مع بدايات الدولة الحديثة منذ عصر محمد على، وكانت البعثات للخارج بهدف الإرتقاء بالمعلمين على جميع المستويات، لكن بعد قرون أصبحنا فى أسفل سافلين، ولم يعد يصادفنا أساتذة من هذا الطراز إلا فيما ندر، لذا لا يجب أن نتعجب أننا لا نعى جيدا دروس التاريخ والجغرافيا، وأن هناك من لا يعرف أين تنتهى حدود مصر وأين تبدأ منابع النيل.

 

فربما لم يحظ هؤلاء بمدرسين كالأستاذ ايليا الذى شرح لنا أهمية الخرائط فى فهم ما يحدث حولنا وفسر لنا الأبعاد السياسية لقصة إنشاء السدود على النيل، كذلك لم يستمعوا لشرح مدام ليلى عندما قالت إن التاريخ حكاية قد تتكرر تفاصيلها فى أى وقت.. أو ربما كانوا ضحية الكتب الدراسية المليئة بالأخطاء ولم يجدوا من يصحح معلوماتهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved