الترويج للاستثمار ضرورى ولكنه ليس كافيًا

ماجدة شاهين
ماجدة شاهين

آخر تحديث: الثلاثاء 9 يونيو 2020 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

ونحن نتأهب للخروج من جائحة الكورونا وبعد التفاوض الناجح مع صندوق النقد الدولى على قرضين متتاليين لمساعدتنا على مواجهة تداعيات الأزمة التى أثرت علينا سلبا أسوة بسائر دول العالم، يبقى علينا فى ظل هذه الظروف المفزعة أن نفكر فى كيفية التقاط أنفاسنا والنهوض مرة أخرى باقتصادنا. وتمثل تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إحدى الآليات الرئيسية التى على مصر التفكير جديا فى جذبها والحفاظ عليها، وهو الأمر الذى لم يعد بسيطا فى ظل المنافسة الشديدة المتوقعة لجذب الاستثمارات بين الدول فيما بعد الجائحة.
هذا، وإن نجاح مصر فى الحصول على أداة التمويل السريع من صندوق النقد الدولى بمقدار 2.7 بليون دولار، لمواجهة حالة الطوارئ الصحية ومعالجة الاحتياجات الفورية لميزان المدفوعات ودعم الفئات الدنيا الأكثر تضررا، وتفاوضها الآن على ترتيبات احترازية تبلغ ما يزيد عن 5 بلايين دولار مع الصندوق لاستئناف واستمرارية الإصلاح الاقتصادى المؤسسى فى أقرب وقت والذى كانت أنجزت مراحله الأولى بنجاح كبير على مدى السنوات الثلاث الماضية، قد ساهم فى استعادة مصر لمصداقيتها كاملة على الصعيد الدولى والإقليمى وتأكيد ثقة الصندوق فى تعامله معها، وهو الأمر الذى يضفى بدوره مزيدا من الثقة للمستثمر فى سلامة الاقتصاد المصرى وقدرته على التصدى لأصعب المحن. بيْد أنه ما زال يعوزنا وضع سياسات ملائمة وخلق بيئة مواتية لجذب الاستثمارات الأجنبية لكى تكون سندا لاستثمارات القطاع الخاص فى الدور المتوقع منه للنهوض بالاقتصاد القومى والتغلب على الآثار المتفاقمة للأزمة. وعلينا أن نعى أن الترويج وحده والافتخار بموقعنا الجغرافى المتميز على اعتبار أن مصر بوابة إفريقيا أو الإعفاء من الضرائب أو التعويض المناسب إثر المصادرة أو التأميم، لم يعد كافيا لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية، فذلك أضعف الإيمان. وأننا اليوم أمام تحديات جديدة تنجم أساسا عن تباطؤ مؤسسى فى التعامل والاستجابة للاستثمارات الجديدة أو تعقيدات إدارية لا مبرر لها.
***
وفى ذلك لا يختلف المسلك الذى يتبعه الاستثمار كثيرا عن مسار تيسير التجارة فى إطار منظمة التجارة العالمية. فعلى الرغم من التحرير واسع النطاق فى إطار جولة أوروجواى، التى دامت مفاوضاتها ما يقرب من ثمان سنوات، ظهر جليا أن التحرير لم يكن كافيا، حيث قامت كثير من الدول – المتقدمة والنامية على حد سواء – بالالتفاف حول اتفاقيات التحرير من خلال اتباع قيود إدارية وغير تعريفية مما أعاق تدفق التجارة فيما بين الحدود. وهو ما حدا بالدول الأعضاء بالمنظمة إلى عقد اتفاقية «تيسير التجارة» فى ديسمبر 2017. وتتضمن الاتفاقية أحكاما تستهدف إزالة التطبيقات الإدارية غير الضرورية والإجراءات التعسفية والمطولة من قبل السلطات الوطنية والجمركية وغيرها. واليوم – وبالمثل ــ تسعى الدول إلى نقل مفهوم «التيسير» لتطبيقه على تدفق الاستثمارات ضمن الجيل الثانى لاتفاقيات التجارة الحرة، حيث تبين أن سياسات الترويج والحماية وحدها لم تعد كافية للحفاظ على الاستثمار داخل الدول المضيفة أو جذب استثمارات جديدة. وأصبحت القواعد اللازمة لتيسير الاستثمار مستقلة تماما عن سياسات الترويج والحماية، حيث أنها تمس دور وطريقة عمل مؤسسات الدولة المضيفة وتؤثر مباشرة على تحرك الاستثمار من دولة إلى أخرى سعيا نحو الإجراءات الأكثر سرعة وكفاءة والأقل تكلفة بعيدا عن المطالبات غير المجدية. فالتوجه إلى دمج تحرير التجارة وتيسير الاستثمار فى اتفاقية واحدة شاملة أصبح شرطا ضروريا لدمج الدول فى سلاسل التوريد ورفع مستويات المعايير لضمان الوصول إلى الأسواق وزيادة القدرة الإنتاجية وخلق فرص العمل والنمو الشامل.
فتشجيع الاستثمار وتيسيره هما نوعان مختلفان من الأنشطة، يتعلق الأول بالترويج للدولة كوجهة للاستثمار، بينما يتعلق الآخر بتبسيط عمليات تدفق الاستثمار وتسريع الإجراءات الإدارية بدلا من المبالغة فى متطلبات تنظيمية متكررة ومرهقة بشكل غير مبرر والتغلب على الروتين وتحسين جودة المشاركة وتسهيل قيام المستثمرين بإنشاء وتوسيع استثماراتهم مع الشركاء المحليين. فكل هذه إجراءات وضوابط تنظيمية تفوق سياسات الترويج وأصبحت أساسية للحفاظ على الاستثمارات واستقرارها وتوسعها داخل الدولة إذا ما أردنا مزيدا من الاستثمارات فى أعقاب تخطى العالم جائحة الكورونا.
***
إننا بحاجة ماسة إلى انتهاج نهج مغاير لتشجيع الاستثمارات من خلال تزويد المستثمرين الجدد والحاليين بنظام يتسم بالشفافية والفاعلية يمكن التنبؤ به وتوفير مناخ قانونى وتجارى مناسب يشمل بصفة أساسية تجديد الإطار الإدارى للاستثمار. ويمكن أن يكون نظام الشباك الواحد نافذة إلكترونية واحدة، لا سيما ونحن بصدد التحول الرقمى، لتقديم الوثائق والطلبات والرد عليها خلال ساعات معدودة. ويعتبر تحديد سلطة واحدة للتعامل مع المستثمر من بين العوامل الحاسمة فى قرارات الاستثمار، لما قد يؤديه أيضا إلى خفض التكلفة والتصدى لعمليات الفساد من خلال تقليل عدد الخطوات التى تنطوى عليها عملية صنع القرار. كما أنه من المهم أيضا مراعاة تداول السلع والخدمات عبر الحدود بسهولة ويسر وتلافى الإجراءات التنظيمية والإدارية العقيمة، لما لذلك من تأثير مباشر على جاذبية اقتصادات وصناعات معينة للمستثمرين، لا سيما فى سياق سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية.
كما أصبح إقران الاستثمارات بالتنمية المستدامة والاهتمام بمعايير البيئة والشرط الاجتماعى من بين المطالب الأساسية لحكومات المستثمرين، لا سيما الدول الأوروبية بعد أن أصبح البرلمان الأوروبى جزءا من معادلة الاستثمار وله حق إقرار اتفاقيات التجارة الحرة من عدمه إن لم تشمل سياسات الاستثمار معايير البيئة والعمالة، وهو الأمر الذى يستلزم عدم التغاضى عن تضميننا لمثل هذه المعايير فى إطار سياستنا الاستثمارية.
ويبقى علينا التحذير من ألا تؤدى الأطر التى تحكم المناطق الاقتصادية الخاصة إلى ازدواجية الاقتصاد الوطنى وأن تعمل على دعم أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة. فقد تكون الاستراتيجية القائمة على المناطق الاقتصادية فعالة فى جذب المستثمرين فى المدى القصير من خلال توفير البنية التحتية والخدمات المناسبة والإعفاء من الرسوم الجمركية للسلع الرأسمالية والمدخلات الأخرى، إلا أن الروابط بين هذه الأنشطة الاقتصادية المدعمة قد تبقى ضعيفة مع سائر قطاعات الاقتصاد الوطنى، مما يؤدى إلى إنشاء اقتصادات مزدوجة قلما تؤثر على التنمية الأوسع والنمو الشامل لجميع فئات المجتمع.
كما يتعين علينا مطالبة الاتحاد الأوروبى بإعادة التفاوض على اتفاقية استثمار شاملة بدلا من أكثر من 25 اتفاقية استثمار منفردة مع كل دولة فى الاتحاد على حدة. وحيث أن منظمة التجارة العالمية فى ظل الظروف التى تمر بها لم تعد المكان المناسب لمعالجة قضايا تيسير الاستثمار، فإن اتفاقيات التجارة الحرة هى المجال الأكثر ملاءمة للتفاوض على جذب وتيسير الاستثمارات، مما يضاعف أهمية مبادرة مصر فى بدء مفاوضات جدية مع الاتحاد الأوروبى كأكبر شريك تجارى لتعميق وتوسيع نطاق اتفاقية المشاركة، التى لم تتطرق من قريب أو بعيد إلى قضايا حساسة مثل تحرير التجارة فى مجال الخدمات والاستثمار والمعوقات غير التعريفية.
ومن الأهمية العمل على الاحتفاظ بالمستثمرين بعد الوصول إلى ذروة الاستثمار وتشجيع قراراتهم بإعادة الاستثمار داخل مصر، حيث يعتبر جذب المستثمرين الجدد أكثر صعوبة وتكلفة مقارنة بدعم إعادة الاستثمار والتوسع، ويتحتم على الحكومة المضيفة النظر فى شكاوى المستثمرين وحلها على وجه السرعة، مما يساعد على الاحتفاظ بالمستثمرين داخل البلاد. وفى إطار آليات فض النزاع بين المستثمر وحكومة الدولة المضيفة، علينا مراعاة التوازن بين مصالح المستثمرين ومنح الحكومة مساحة كافية للسياسات العامة والمصلحة الوطنية.
وختاما أود إعادة التأكيد على أن إجراءات تيسير الاستثمار شقت طريقها أخيرا إلى مقدمة المفاوضات المعنية بجذب الاستثمارات. فقد نشر كل من مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ومنظمة التعاون الاقتصادى للتنمية قوائم إجراءات بشأن تيسير الاستثمار. وفى الآونة الأخيرة، استأثرت منظمة التجارة العالمية بمناقشات مستفيضة حول تيسير الاستثمار ووضع قواعد متعددة الأطراف فى هذا الشأن. فإن أهمية الاستثمارات الأجنبية المباشرة تكمن فيما توفره من مزايا إضافية فى التكنولوجيا والخبرة الرقمية وعمليات توسع القدرة الإنتاجية للاقتصاد وكمكمل رئيسى للاستثمارات الوطنية ولقطاع خاص مسئول ونشط.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved