الدكتور الجنزورى.. ما له وما عليه

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 9 يوليه 2012 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

لا يعرف كاتب هذه السطور كم من الوقت سيبقى الدكتور كمال الجنزورى رئيسا للوزراء، وأغلب الظن أنها مسألة وقت قبل أن يغادر منصبه تاركا لشخص آخر مهمة إدارة شئون حكومة مصر فى ظل الجمهورية الثانية، وبصرف النظر عن التقييمات المختلفة لأدائه، فليس هناك شك أنه تولى هذه المهمة فى ظروف عصيبة، وأنه كان يعرف أنها مهمة مؤقتة، وإذا كان لم ينجح تماما فى الاستعادة الكاملة للأمن، وإعادة الاقتصاد لمعدلات نمو مرتفعة، فهو يستحق التحية، لأنه حاول مخلصا أن ينهض بهذه الأعباء، وفى تحقيق قدر لا ينكر من الإنجاز فى هاتين المهمتين. وإذا كانت مسألة تكريمه لهذه الجهود تقع على عاتق رئيس الجمهورية، كما ينبغى فى كل هذه الحالات لمن يتولى بأمانة مسئولية رئاسة وزراء مصر، فهو يستحق من جانب متابعى الشأن العام مثل كاتب هذه السطور تقييما موضوعيا لمسيرته، واستخلاصا للدروس مما فعل، فهذه تحية له، ولكنها أيضا نصيحة لمن سيتبعه حتى يستلهم العبرة من نجاحاته، ويتعظ من إخفاقاته. كما أن هناك سببا آخر لتقييم أداء الدكتور الجنزورى، وهو أنه قد تعرض لاتهامات ظالمة من جانب كثيرين فى الماضى عندما كان رئيسا للوزراء لثلاث سنوات تقريبا فى ظل الرئيس السابق، عندما استكثر عليه المحيطون بمبارك أنه كان يريد أن يكون رئيسا للوزراء كما كان رؤساء الوزراء فى العهد الملكى، وقد سمعت من أصدقاء فى وزارة الخارجية فى ذلك الوقت تعجبهم من مطالباته بالاستماع من وزير الخارجية لتقرير عن سياسة مصر الخارجية، كما أنه كان مظلوما فى الشهور الأخيرة، فقد ضاعف نواب حزب الحرية والعدالة من صعوبات أدائه لمهامه بالإصرار على استقالة حكومته بدعوى أنها لاتنجز شيئا، مع تأكيدهم فى وقتها أنهم مستعدون لتشكيل الحكومة فى ظرف أيام من استقالته، وهو ما كذبته الأسابيع التى انقضت منذ تولى رئيس حزبهم السابق رئاسة الجمهورية، وعدم تشكيله حتى الآن لحكومة تخلف حكومة الجنزورى الذى مازال يسير الأعمال انتظارا لتشكيل مثل هذه الحكومة. كما أن شباب الثورة والمتعاطفين معهم قد ظلموه أيضا باتهامهم له بأنه جاء لتصفية الثورة، وهو ما لم يفكر فيه، ولا يوجد دليل على أنه حاول ذلك. بل لقد ظلم الجنزورى نفسه ببعض التصريحات المتسرعة التى أدلى بها، مثل شكواه أن دول الخليج تحاول تركيع مصر بامتناعها عن مساعدتها، وهو ما أنكرته بعض هذه الدول، وقدمت الدليل على مساعدتها لمصر، وهى المساعدة التى مكنته من التفاخر بأن حكومته نجحت فى وقف السحب من أرصدة الاحتياطى الاستراتيجى، بل وزيادته بمقدار مائة مليون دولار فى نهاية شهر مايو الماضى.

 

كشف حساب الدكتور الجنزورى: دروس إيجابية

 

لم ألتق بالدكتور الجنزورى مرة واحدة، ولكنى تلقيت منه مكالمة تليفونية بعد مغادرته منصب رئيس الوزراء فى سنة 1999، وقد حدثنى شاكرا إهدائى له نسخة من تقرير التنمية الشاملة فى مصر الذى أشرفت على إصداره عندما كنت مديرا لمركز دراسات وبحوث الدول النامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولكن ما أعرفه عنه من إيجابيات سمعته من بعض من اقتربوا منه، كما أن هناك إيجابيات أخرى كنت طرفا غير مباشر فيها. سمعت ممن عملوا معه عن دأبه فى العمل، وقدرته على مواصلته ساعات طويلة فى عمره المتقدم، وذاكرته الحديدية التى تحتشد بالأرقام والبيانات عن جميع الأنشطة التى تقوم بها الحكومة، ومتابعته الدقيقة لجميع أعمالها، وحرصه الشديد على المال العام، وعفة يده وأمانته اللتين أصبحتا مضرب الأمثال، رغم خدمته الطويلة فى ظل حاكم ندر من لم يكن فاسدا من كل من عملوا معه.

 

كما كان هناك موقف آخر وقف فيه إلى جانب حرية البحث العلمى عندما كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للتخطيط ومسئولا بحكم منصبه عن تقرير التنمية البشرية فى مصر، والذى كان يرأس تحريره الدكتور عثمان محمد عثمان. وقد ساهمت فى كتابة أبحاث وجدت طريقها إلى أعداد متعددة من هذا التقرير. وكان العدد الثانى من هذا التقرير فى سنة 1995 واحدا منها، وكان موضوعه هو المشاركة السياسية والاقتصادية فى مصر، وآثرت أن يكون مدخلى لمناقشة المشاركة السياسية فى مصر هو من خلال تحليل المشاركة فى انتخابات مجلس الشعب، وتكرم الدكتور الجنزورى بكتابة خطاب إلى مسئول الانتخابات فى وزارة الداخلية طالبا منه مساعدتى فى الحصول على البيانات الضرورية لبحثى، وهو ما استجاب له هذا المسئول الذى أملانى حرفيا هذه البيانات فى مكتبه بوزارة الداخلية، وقد كتبت بحثى استنادا على هذه البيانات، وظهر بحثى كاملا كما كتبته فصلا فى ذلك العدد الثانى من تقرير التنمية البشرية فى مصر، وقد هال الدكتور الجنزورى الذى قرأ التقرير قبل إصداره ما كتبته عن تزوير الانتخابات، وأبدى للدكتور عثمان ضيقه مما كتبت وتعجبه أن يحدث ذلك وهو نائب لرئيس الوزراء، ولكنه اقتنع بترك ما كتبت دون أى تدخل من جانبه عملا بمبدأ حرية البحث العلمى، وقد خرج ذلك الفصل عن المشاركة السياسية بالفعل كما كتبته. وقد أكبرت له كثيرا ذلك الموقف. وخصوصا وقد اتخذ سلفه موقفا مغايرا عندما صدر آخر عدد من تقرير التنمية الشاملة فى مصر عن مركز دراسات الدول النامية بكلية الاقتصاد والعلوم السيسية قبل انتهاء إدارتى لهذا المركز، وكنت قد كتبت المقدمة التحليلية لهذا التقرير، والتى أوضحت فيها تباطؤ النمو الاقتصادى فى مصر فى بداية العقد الأول من القرن العشرين والعثرات الهيكلية لهذا النمو، وقد نشرت صحيفة الحياة هذه المقدمة بالكامل، وهو ما لم يرض رئيس الوزراء، وأعرب عن سخطه للدكتور مفيد شهاب الذى كان وزيرا للتعليم العالى فى ذلك الوقت، والذى نقل هذه الرسالة لكل من رئيس الجامعة وعميد كلية الاقتصاد وشكك فى صحة ما أوردته من تحليل. وأبلغت رئيس الوزراء من خلال قيادات جامعة القاهرة إصرارى على صحة التحليل، واستعدادى لمناقشة الأمر مع الدكتور عثمان محمد عثمان الذى كان يتولى فى ذلك الوقت وزارة التخطيط، وبطبيعة الحال لم يحضر الدكتور عثمان لمناقشتى، وخرج التقرير كما كتبت، لأن التحليل الذى ورد فيه والذى لم يلق إعجابا من رئيس الوزراء كان يعتمد تماما على أرقام رسمية.

 

كشف حساب الدكتور الجنزورى: ماذا يجب على رئيس الوزراء القادم تجنبه؟

 

ومن المعروف عن الدكتور الجنزورى شغفه بالمشروعات القومية الكبرى، وإيمانه بأنها طريق مصر الوحيد للخروج من أزماتها الاقتصادية، ولكن ثارت التساؤلات حول ما إذا كانت كل هذه المشروعات قد خضعت لدراسات متأنية، وما إذا كان من الممكن توفير الاستثمارات لكل هذه المشروعات فى وقت واحد. وقد كان مشروع توشكى واحدا من هذه المشروعات، وقد أوليته اهتماما كبيرا استجابة لطلب غير مباشر من الدكتور الجنزورى، فقد طلب فى ذلك الوقت فى سنة 1997 من الدكتور على الدين هلال الذى كان عميدا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة إجراء دراسة شاملة عن هذا المشروع، واتصل بى الدكتور هلال بعد لقائه برئيس الوزراء، وطلب منى بحكم إدارتى للمركز البحثى الأكثر ارتباطا بمشروعات التنمية أن أقوم بهذه الدراسة، وهو ما شرعت فيه على الفور، واقترحت على الدكتور هلال أن يطلب من الدكتور الجنزورى ما يتوافر لدى الدولة من بيانات عن هذا المشروع، واتصل عميد الكلية بمكتب رئيس الوزراء طالبا مد المركز بما يتوافر لدى الحكومة من دراسات عن هذا المشروع، وقد كانت سعادتى شديدة عندما تلقيت أربع مجلدات ضخمة من مكتب رئيس الوزراء عن ذلك المشروع، ولكن هذا الفرح تحول إلى دهشة شديدة عندما تصفحت المجلدات الأربع، فجنوب الوادى المقصود فى المجلدات الأربع هو محافظتا قنا وأسوان، ولكن لا توجد فى أى منهما كلمة واحدة عن المساحة الواسعة من الأراضى جنوب الصحراء الغربية المعروفة بمشروع توشكى. وقد استجبت لطلب رئيس الوزراء، وبدأت بعقد جلسات استماع حول المشروع، وكان ضيف الجلسة الأولى الدكتور رشدى سعيد عاشق نيل مصر وصاحب كتاب موسوعى عنه والذى تحفظ كثيرا على المشروع مفضلا استخدام مياه النيل فى الوادى والدلتا أو فى مناطق تتاخمهما، وكان الضيف الثانى هو الدكتور محمود أبوزيد الذى كان فى ذلك الوقت رئيسا للمركز القومى لبحوث المياه والذى وصف المشروع بأنه مشروع غير تقليدى، فالمشروع التقليدى فى رأيه هو الذى تسبقه الدراسة أما مشروع توشكى فهو تقرر قبل أن تجرى عليه أى دراسة، وقد عقدنا مؤتمرا بعد ذلك شارك فيه أفضل خبراء مصر فى جميع الجوانب المتعلقة بالمشروع، وأصدرنا كتابا ضم خلاصة أبحاثهم، وكانت أهم استنتاجاتهم عدم كفاية المياه لاستصلاح المساحة الواسعة المأمولة والتى كانت تقدر بثلاثة ملايين فدان، واستحالة اجتذاب خمس ملايين من المواطنين للإقامة فى هذه المنطقة التى تتسم بحرارتها الشديدة، فضلا عن عدم واقعية الاعتماد على القطاع الخاص والتمويل الأجنبى لتغطية 80% من الاستثمارات المطلوبة للمشروع، وهى انتقادات ثبتت صحتها بعد ذلك، فقد توقف الحديث عن هذه الأهداف الطموحة، واقتصرت أهداف المشروع على استصلاح خمسمائة ألف فدان، أى سدس ما كان مستهدفا فى البداية، وتوارى الحديث عن اجتذاب خمسة ملايين من المواطنين تتسع لهم سبع عشرة مدينة من المدن الجديدة. لم يعلق الدكتور الجنزورى على نتائج أبحاثنا، واكتفى الدكتور يوسف والى نائب رئيس الوزراء حينذاك (1998) برد غير مباشر على صفحات ملحق مصر الخضراء الذى كانت تصدره صحيفة الأهرام.

 

رئيس وزراء مصر يستحق التحية

 

هذا بعض ما عرفت عن الدكتور الجنزورى رئيس وزراء مصر، ما له وما عليه، وهو يستحق التحية وهو يستعد ربما لمغادرة موقعه رئيسا لحكومة مصر، لأنه كان مخلصا فى كل ما فعل، وقبل تحمل المسئولية وأداها بأمانة فى فترة عصيبة من تاريخ هذا الوطن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved