انتفاضة فلويد والمسألة الفلسطينية

عزت سعد
عزت سعد

آخر تحديث: الخميس 9 يوليه 2020 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

منذ أواخر مايو الماضى وحتى الآن، لم تهدأ موجة الاحتجاجات العارمة التى ضربت أكثر من 150 مدينة أمريكية وعواصم أوروبية كبرى احتجاجا على مقتل المواطن الأمريكى من أصل إفريقى جورج فلويد. وجاءت الاحتجاجات كرد فعل على امتداد العنصرية البغيضة التى رافقت هجرة الأوروبيين للعالم الجديد منذ مطلع القرن الخامس عشر الذين استعبدوا الملايين من شعوب إفريقيا، وأجبروهم على العمل فى المستوطنات التى أقاموها فى الأرض الجديدة. وظل «إرث العبودية» هذا، رغم حديث إعلان الاستقلال والدستور الأمريكيين عن الحرية والمساواة بين الناس، «خطيئة أمريكا الأصلية» القائمة حتى يومنا هذا، والتى تظهر من حين لآخر، وتفجرت بوضوح مع تولى الرئيس ترامب الحكم قبل ثلاثة أعوام والمعروف بقاعدته الشعبية المنتمية إلى اليمين الصهيونى المتطرف.
وقد أذكت تصريحات ترامب وموقفه ارتباطا بالأزمة المزيد من غضب الشارع عندما هدَد باستخدام القوة العسكرية استنادا إلى «قانون الانتفاضة» الصادر عام 1807، مما استدعى إلى الأذهان تاريخ «الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة وقادة الكونفيدرالية، وجلهم من رموز تجار الرقيق وداعمى العبودية والمؤمنين بهيمنة العنصر الأبيض مقابل اللون الأسود المرتبط فى فكرهم بالدونية وانعدام الحرية.
ولقد كان طبيعيا أن يربط المحتجين بين ماضيهم وحاضرهم المعاش المرير والذى يقوم على الظلم والخوف والقهر والغضب، بالتحرك لتفكيك تماثيل الكثير من هؤلاء فى الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، وهو ما أثار الجدل ما بين وجهة نظر تطالب بالتفكيك، لما ارتكبه أصحاب التماثيل من جرائم تصنف اليوم على أنها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، بينما يرى البعض الآخر أن التماثيل باتت جزءا من تاريخ الدولة وأن إزالتها لا يمحو التاريخ.
***
أن هذا الإرث من التمييز العنصرى والاستعمارى ومن روجوا له وتمسكوا به، هم بالتحديد من كانوا وراء قيام دولة إسرائيل وخلق مأساة الشعب الفلسطينى الذى وقع ضحية مشروع استعمارى استيطانى يقوم على القوة والعنف والعنصرية والفصل العنصرى، من أجل إقامة وتوسيع كيان ينادى بتجميع يهود العالم فى فلسطين على أسس دينية وأيديولوجية وسياسية، وإحلالهم محل أصحاب البلاد الأصليين. ومن الثابت أن ميلاد ونجاح الكيان الذى أقامته الحركة الصهيونية لم يكن ليحدث بدون الدول الاستعمارية، لا سيما المملكة المتحدة فى المرحلة الأولى، والولايات المتحدة فيما بعد وحتى الآن.
ولقد استفاض الباحثون فى دراسة خيانة بريطانيا للشعب الفلسطينى بوعد بلفور عام 1917، وسائر الحركة القومية العربية باتفاقية سايكس بيكو مع فرنسا عام 1916، وبدء طرد الشعب الفلسطينى بالقوة عام 1947 والذى بلغ ذروته مع قيام دولة إسرائيل فى 15 مايو 1948، واستمر بعدها حيث أغلقت إسرائيل الحدود تدريجيا لقطع طريق العودة على اللاجئين بالرغم من التعهدات التى قطعتها للأمم المتحدة.
وكانت الدول العربية مؤيدة من حركة عدم الانحياز نجحت فى استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة فى أوائل سبعينيات القرن الماضى باعتبار «الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية» إلا أن القرار لم يصمد طويلا، حيث قادت ضغوط الولايات المتحدة وأصدقاء إسرائيل إلى إلغاء القرار بعد عدة سنوات.
وحرصت بريطانيا على الاحتفال بمرور 100 عام على وعد بلفور فى 2 نوفمبر عام 2017، والذى تعهد فيه بتقديم الدعم البريطانى لإقامة وطن يهودى فى فلسطين، متجاهلا تماما الحقوق السيادية للشعب الفلسطينى الذى كان يعيش على تلك الأرض. ووصفت تيريزا ماى رئيسة الوزراء السابقة الوعد بأنه «من أهم الرسائل فى التاريخ» مؤكدةً فى كلمة ألقتها أمام مؤتمر أصدقاء إسرائيل المحافظين: «أنها ذكرى سنوية نحييها بفخر». ورفضت ماى حتى تقديم اعتذار ــ كحدٍ أدنى ــ عن انتهاك الحقوق الوطنية والفردية «لرعاياها» السابقين واغتصاب أوطانهم.
ولم يأت تملُق ماى وتوددها لأصدقاء إسرائيل مفاجئا، فقد ظل الدعم البريطانى لإسرائيل سياسة ثابتة تجاه المشروع الصهيونى منذ نشأته. ورغم ادعاءات بريطانيا بالتزامها بإحلال السلام، إلا أنها أثبتت على الدوام أنها حليف أمين لإسرائيل. وبجانب الأسلحة التى تمد إسرائيل بها، تواصل لندن شيطنة حركة المقاطعة السلمية العالمية وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، بهدف إعمال حقوق الشعب الفلسطينى.
ولقد سبقت النخبة السياسية فى بريطانيا قبل أكثر من قرن من الزمان إدارة ترامب فى الاسترشاد بالأيديولوجية الصهيونية المسيحية التى سعت إلى تسهيل عودة اليهود إلى الأرض المقدسة بدعوى تحقيق نبوءة الكتاب المقدَس. وضمت تلك النخبة رئيس الوزراء، لويد جورج. وبعد ما يزيد على شهر من صدور وعد بلفور، أخذ الجنرال إدموند اللنبى القدس من العثمانيين، وهو ما كان بداية الحكم الاستعمارى البريطانى لفلسطين. وبالرغم من انتهائه مع قيام دولة إسرائيل فى مايو 1948، وتشريد غالبية السكان الفلسطينيين قسرا وحرمانهم من حق العودة، إلا أن التدخل البريطانى فى فلسطين استمر بفضل التزام بريطانيا الثابت بالذود عن الصهيونية، سواءً كان المحافظين أو العمال. ولا ننسى أن العمَال فى عهد تونى بلير ــ الذى كان مبعوثا أوروبيا لعملية السلام ــ جدَد دعمه الحاسم لإسرائيل فى السياسة البريطانية الحديثة، وكان منذ بداية حياته السياسية فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى عضوا فى جماعة ضغط مؤيدة لإسرائيل هى جمعية أصدقاء إسرائيل فى حزب العمَال. وفى عهد جوردون براون، خليفة بلير، استرعى ناشطو حقوق الإنسان الأنظار إلى أن الجيش الإسرائيلى استخدم أسلحة من المملكة المتحدة فى عدوانه الذى أسفر عن استشهاد ما يزيد على 1400 فلسطينى معظمهم مدنيون فيما سمى بعملية الرصاص المصبوب على غزة فى 2008 – 2009. وعندما تبنَى زعيم حزب العمَال السابق جيريمى كوربين موقفا داعما للقضية الفلسطينية، اتُهم بدعمه لحماس ومعاداته السامية، وعانى الحزب كثيرا على خلفية معاداة السامية، بما فى ذلك تعليق عضوية العديد من أعضائه، ومنهم ناشطون يهود وصفوا تجارة الرقيق الإفريقية بـ«الهولوكوست».
***
وهكذا يتحدث البريطانيون عن وعد بلفور كأنه تاريخ على غير الحقيقة حيث يظل ماضى الشعب الفلسطينى هو حاضره. واليوم يستكمل ترامب مسيرة التنكيل بالفلسطينيين بصفقته المشئومة، وساهمت ثقافة الإفلات من العقاب فى تكرار انتهاكات إسرائيل للقانون الدولى على مدى أكثر من سبعة عقود، وقد ذهب ترامب إلى حد فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لإعلانها فتح تحقيق ضد إسرائيل بارتكاب جرائم حرب فى الضفة والقطاع، واعتزامها بدء تحقيق فى جرائم حرب مدَعى بارتكابها فى أفغانستان من قبل الولايات المتحدة، متهما المحكمة «بالاضطهاد السياسى» لإسرائيل.
والمتأمِل لتاريخ الوساطة الأمريكية بين الفلسطينيين والإسرائيليين يرى بوضوح كيف استخدمت الولايات المتحدة نفوذها كوسيط وحيد للسلام وكقوة عظمى لتقويض التوصل إلى اتفاق يقوم على حد أدنى من العدالة وحرصها على توفير غطاء سياسى للنزعات التوسعية الإسرائيلية. كما قامت سياسة واشنطن على إعادة توجيه جهود الرباعية الدولية لكى تتركز على إدارة الشئون الفلسطينية الداخلية بعيدا عن القضية الأساسية المتمثلة فى خضوع إسرائيل لقرارات الشرعية الدولية وتجميد الاستيطان، وهو ما أعطى إسرائيل حرية كاملة فى خلق حقائق جديدة غير شرعية على الأرض. وبات الاتحاد الأوروبى ممولا للسياسة الأمريكية.
وبعبارة أخرى حمت الإدارات المتعاقبة احتكار الولايات المتحدة للوساطة الإسرائيلية الفلسطينية، وكانت النتيجة أن معايير السلام التى اقترحتها واشنطن قريبة جدا من المواقف التفاوضية لإسرائيل. وباتت الحكمة السائدة الآن هى «أن السلام فى الشرق الأوسط لا يعنى بالضرورة انسحاب إسرائيل إلى خطوط 4 يونيو 1967، وإنما معالجة القضية الفلسطينية فقط بعد تحقق التطبيع الكامل بين إسرائيل وجيرانها العرب». وبطبيعة الحال، لم تأخذ الولايات المتحدة فى أى وقت المطالب العربية مأخذ الجد طالما أن مصالحها ليست مهددة، بل إن هناك بعض العرب الذى يساعد واشنطن فى تنفيذ سياستها هذه، بقصد أو بدون. ولا يبدو أن العرب قادرون حتى الآن على تطوير قدراتهم الذاتية لتحسين أوضاعهم الداخلية بما يكفى لمواجهة إسرائيل، كما لا يبدو أن لديهم خططا مستقبلية فى هذا الشأن فى مواجهة خطط إسرائيل المعروفة لنا جميعا، والتى تقوم على ثوابت العقيدة الصهيونية المتمثلة فى هوس السيطرة الكاملة على الأرض وضمان الأغلبية الديموجرافية، خاصة من خلال منع عودة اللاجئين إلى ديارهم ومنع قيام دولة فلسطينية، وغير ذلك.
وعلى الدول العربية أن تدرك حقيقة أن تعقيدات السياسة الداخلية الأمريكية، والحقائق الجيوسياسية، لن تترك أية فرصة لإيجاد آلية وساطة جديدة متعددة الأطراف تدعم الحق الفلسطينى، وبالتالى يجب البحث عن صيغة لا تعوّل كثيرا على الدور الأمريكى حسبما دعا بعض المحللين الفلسطينيين، كأن يكون هناك تنسيق وثيق بين الدول الأربع دائمة العضوية فى مجلس الأمن بجانب الاتحاد الأوروبى وجامعة الدول العربية، بجانب حث السويسريين على عقد اجتماع للدول الأطراف فى اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين تحت الاحتلال بهدف منع تطبيع الاحتلال الإسرائيلى، وذلك مع التواصل مع الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
أخيرا، فإن من شأن حراك شعبى سلمى واسع تحريك الوضع، متى رافقه إنهاء لحالة الانقسام الفلسطينى، وهو ما ينطوى على رسالة واضحة للمجتمع الدولى بأن الشعب الفلسطينى لن يقف صامتا أمام ظلم إسرائيل وجرائمها المتواصلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved