النداء الأخير

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 9 يوليه 2021 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

تعالى النداءُ بعدما أصيب الواقفون بالمللِ وبلغ بهم الحنقُ مَبلغه؛ وقد ضغطت أحذيتُهم أقدامَهم المنهكةَ في غياب مقاعد كافية. انطلق الصوتُ شبه الآليّ منبهًا إلى أن ثمَّة قطارًا لن يأتي مطلقًا، وعلى مُنتظريه أن يتوجهوا إلى قطار آخر، وأن يسارعوا للحاقِ به وأن يقفزوا فيه ما انفتحت الأبوابُ؛ لعلهم يصِلون مقاصدَهم بعد تأخيرٍ دام ساعة ونيف. أعاد المنادي تحذيره وأكد أن نداءَه هذا هو الأخير؛ فتدافع الناسُ قبل فوات الأوان مِن كل حدبٍ وصوب، يرومون انتزاع الأمكنةَ القليلةَ المتبقية، ولو لم تكن مُخصَّصة لهم.
•••
النداءُ الأخير بمنزلةِ تنبيهٍ ينطلق في الأجواءِ؛ فيحتِّم اتخاذ خطوة ما أو إجراء. يتجه المسافر إلى طائرته، والراكبُ إلى الرصيف حيث يقف قطاره أو تحطُّ حافلته، ويسرع كلُّ متكاسلٍ كي لا يفوته الميعاد أو يفلت منه ما خطَّط وأراد.
•••
بعضُ النداءاتِ أكثر حسمًا من مجرد اللحاقِ بمواعيد سفرٍ أو عملٍ أو لقاء؛ الصافراتُ التي تنطلق في لحظةِ خطرٍ لتدفع بالأطباءِ المُعالجين وفريقِ التمريض إلى سرير مريضٍ توقفت أجهزته الحيوية عن العمل؛ هي ولا شكَّ نداءات أخيرة؛ تتعلَّق بتلبيتها الأفئدةُ، وتتشبث بها حيواتٌ على وشك الأفول.
•••
مثلها إلى حدٍّ بعيد تلك النداءاتُ المتواصلة التي تبثها سيارةُ إسعاف تحمل في جوفها مصابًا، يزعق سائقها ويطلق سرينته ليتنحى المحيطون به جانبًا ويفسحوا الطريقَ؛ لكن أغلبهم يتجاهل في العادة النداءَ ولا يستجيب؛ إذ الشكُّ يراوده في جدية المَوقف، وفي البالِ والخاطرِ أن السائقَ قد يفتعل وجودَ حالٍ طارئة كي يتمكَّن من تخطي الآخرين؛ فيما حركة المرور مُرتبكةٌ والشوارع مكتظةٌ والركابُ جميعهم متأففون.
•••
منذ فترةٍ ليست ببعيدة، طافت بالشوارع فرقٌ طبيةٌ مُكلفة بأداء مُهمة شاقة. جعلت تنادي في مُكبرات الصوت داعية الساكنين إلى التقدم بأطفالهم لتلقي التطعيمِ اللازم ضدَّ شلل الأطفال، وقد دارت في الخلفية أخبارٌ وأقاويلُ تفيد عودة المرضِ الكئيب؛ الذي ظنه الناسُ قد باد في نطاقِ حدودنا الجغرافية وانقرض. جاء النداءُ صادمًا وكأنه يعلن السامعين بالفرصة الأخيرة المتاحة للنجاة، وقد توالت المفرداتُ تمحو الاطمئنانَ، وتزرع مكانه القلقَ وتستثير التساؤلات. رغم السياق الجديِّ والإلحاح على مدار أيامٍ، لم تفزع جموع الخائفين لطلب المَصل ولا تراصت الصفوفُ استجابة للمُنادين.
•••
خلال الأسابيعِ الماضية جابت عرباتُ نصفِ النقلِ أحياءً كثيرة؛ فيها المُوسر والفقير، حاملةً بضائع وأغذية بعضها مُجمَّد والآخر طازج وفيها أيضًا المُجفَّف والمُعلَّب والمُغلَّف. سمعت من مكاني النداءَ الصارمَ الذي انبعث منها مدويًا؛ يزجر الساكنين في المحيط القريب، ويحثهم على التوجه في التوّ ودون إبطاءٍ إليها، والشراء منها، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. نظرتُ مِن الشرفة فألفت العربةَ متوقفة تحت ظلّ شجرة وارفة نَجت من المَجازر المتوالية بمُعجزة، كما أبصرت السائقَ وقد فتح صندوقَ العربة كاشفًا ما بحوزته مِن مُنتجات، ناظرًا حوله، مُتأهبًا لتكالُب الزبائن عليه واصطفافِهم أمامه، مادًا عنقَه إلى ذات اليمين وذات اليسار، مُمسكًا مُكبر الصوتِ بيد، واقيًا عينيه مِن الشمسِ الحارقة بيده الأخرى، باحثًا عن شخصٍ واحدٍ يمد الخُطى نحوه عازمًا على إلقاء نظرة؛ فلا يجد.
•••
مرت دقائقُ صمتٍ ثم انبعث نداؤه من جديد وفيه نبراتُ غضبٍ واستنكار؛ إذ لم يتزاحم على بضائعه السكانُ، ولا اتجه صوبَ عربته كائنٌ حيّ سوى بعضِ القططِ التي اجتذبتها الرائحة. أعاد نداءاتِه بحذافيرها وحدَّد وقتًا لانصرافِه متصورًا أنه يستحث الناسَ على الإسراع بالمجيء؛ لكن حيلتَه لم تُحدِث فارقًا؛ بقي وحده مُتجولًا حول العربةِ وأخيرًا انصرف خائبًا. سألت سيدةٌ بسيطةٌ تعمل في حراسةِ إحدى البناياتِ المُجاورة إن كانت قد ابتاعت احتياجاتها مِن العربة فأجابتني بلا تردد: وهو حد ضامن؟!
•••
كثيرةٌ هي ومتنوعة تلك النداءات التي تتخذ طابعَ الحسْمِ فإذا بها تحرز صفرًا كبيرًا؛ لا يعبأ بها الناسُ ولا يعطونها اهتمامًا حتى وإن كان مُستحقًا؛ فيما يقبلون على نداءاتٍ بسيطةٍ وخفيفة بل أحيانًا ما تكون تافهةً؛ فيلتفُّون حول أصحابِها ويتفاعلون معهم. في رمضان الماضي دأبت امرأةٌ ثلاثينية على المرور أسفل الشرفات المضيئة، مُمسِكةً بدفٍ وفي ذيلِ جلبابها يتعلق طفلٌ أسمر ضئيلٌ لا يتجاوز الخامسةِ مِن العمر، تغني المدائح المعروفة بصوت عريض فيه بحة التعب مِن كثرةِ الترحال، ويرد عليها الولد بصوتِه الرفيع الذي لا يخلو مِن حلاوة؛ فينزل إليها القاطنون من بيوتهم ويجزونها على ما أطربهم ومسَّ أرواحَهم.
•••
أعظم النداءات التي مررت بها في الدراما تلك الأبيات المأخوذة من النصوص المصرية القديمة، والتي قدمها شادي عبد السلام في فيلمه الشهير: انهض فلن تفنى.. لقد نوديت باسمك.. ولقد بعثت من جديد. النداء هنا مرادف لحياة تُستعاد مِن سُبات، نداءٌ لا بد وأن يستجيبَ له المنادَى بلا تأخير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved