الحج.. كما يراه الغزالى

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 9 يوليه 2021 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

الحج هو الشعيرة الخامسة من شعائر الإسلام الكبرى؛ حيث يطوى المسلم رحاله إلى البيت العتيق ليتفقد عن قرب سيرة أبيه إبراهيم ورسوله الكريم يحدوه فيها الشوق والوجد، وتغمره خلالها مشاعر الرضا والفرحة ويتجسد أمامه ضعف العبودية وعزتها، ويرى بعين قلبه عظمة الربوبية، تاركا وطنه وأهله وأحبته متوجها بقلبه ومشاعره إلى الله وحده.
والحج كما يشرح «الغزالى» نداء قديم جديد، قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام هو أول من أعلنه وصدح بندائه، وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد «صلى الله عليه وسلم» ندب إليه وقاد قوافله ووضع مناسكه،وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة وهى تستمع فى حجة الوداع إلى كلماته الجامعة.
والحج عنده طاعة مطلقة وانقياد تام وتناغم كامل فوفود الحجيج تنطلق مخلفة وراءها مشاغل الدنيا ومرددة للتلبية بأصوات خاشعة فى تناغم عجيب بين الحجيج والملكوت والكائنات جميعا.
ويتساءل الشيخ: هل تذوق العالم هذه المعانى واستشعر حلاوتها، ويجيب على نفسه قائلا: كلا.. فما أكثر التائهين عن الله، والمتمردين عليه، وما أكثر العابدين بغير ما شرع، إن هؤلاء العاصين نغمة نشاز فى كون متناغم يسبح بحمده سبحانه.
دع عنك هؤلاء التائهين، وارمق الوفود المنطلقة صوب مكة تجأر بالتلبية، ويسير بها البر والبحر والجو، إنه بالتلبية والتكبير يقرر أشرف حقيقة فى الوجود، فلا عجب أن يتجانس الكون المسبح بحمد الله مع إنسان انخلع من نفسه وانطلق إلى ربه لا يلوى شيئا من أغراض الدنيا.
ورغم أن الحج طاعة مطلقة وانقياد كامل لله، إلا أن للعقل مدخلا فى شعائره يتذوقها ويستطيبها ويقف على حكمها الجليلة، فللحج حكم معقولة علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
فمن حق أول بيت وضع للناس قلعة للتوحيد ومثابة للموحدين أن تكون له مكانة خاصة، وأن يطير إليه الحجاج كما تطير الحمائم إلى أوكارها وفى فؤادها حنين إليه.
وإذا كان المسلمون جميعا يتوجهون للكعبة فى صلواتهم فمن حق هؤلاء الذين اتخذوه قبله أن يرسلوا كل عام وفدا منهم لكى يرى قبلته ويزورها، وإذا لم يحج المسلمون إلى البيت الذى بدأ عنده تاريخهم فأين يحجون.
إذا كان بعض المغفلين يزعم أن تقبيل الحجر الأسود نوع من الوثنية فليكن تقبيل الملوك والرؤساء لأعلام دولهم نوعا أيضا من الوثنية وعبادة الأقمشة، إن تقبيل الحجر الأسود نوع من ترجمة مشاعر الولاء لله.
ويستطرد الشيخ الغزالى قائلا هل كانت هاجر تدرك أن ابنها إسماعيل سيكون من ذريته نبى خاتم وسيكون من ذريته شعب كبير ومن أثره حضارة تظلل الأرض برحمتها وسناها؟ لم تكن تدرك ذلك، ولكنها استسلمت لأمر ربها وأطاعت زوجها فى البقاء فى هذه الصحراء الجرداء وقتها قائلة «إذا لا يضيعنا الله» فإذا كلف الناس مثل تكليف أم إسماعيل فعليهم بتجديد الثقة فى الله وحسن التوكل عليه سبحانه.
والحج وفاء لنداء إبراهيم كما يرى الغزالى، فهم يأتون ليترجموا وفاءهم ولتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى، لا يمر عام إلا وتقبل الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق من أوكارها يحثها الشوق إلى مهاد التوحيد وحضنه «ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ».
الوفود القادمة من القارات الخمس على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها يجمعها شعور واحد وتنتظمها عاطفة دينية تترجم عن نفسها بتلبية تهز الأودية.
إن الإنسانية واحدة من آدم إلى إبراهيم إلى محمد، وشرفها الحقيقى فى معرفتها لله وولائها له.
ثم يردف الغزالى قائلا: ليست هناك شعيرة من شعائر الإسلام يتمثل فيها معنى الوحدة مثل الحج، القبلة الواحدة والزى الواحد والرب الواحد والهتاف الواحد والتجمع المهيب فى عرفات، هناك لا تفرق بين ملك وسوقة، أو بين جنس وآخر، فقر العبودية ظاهر، وغنى الربوبية باهر، هناك لا ذكر إلا الله فيوم عرفة فريد فى مظهره ومعناه، لا تسمع فيه إلا تأوهات التائبين وأنين الخاشعين، وضراعة المستغفرين «إنها الإنسانية المستجيرة بربها» هكذا يلخص الغزالى بهذه العبارة معنى الحج الحقيقى أن البشرية كلها تستغيث وتستجير بربها.
وفى النهاية يخاطب الشيخ محمد الغزالى الحجاج: يا قومنا إن الحج ليس لقاء أجساد، ولا شراء هدايا، ولا حمل ألقاب، اجعلوا الموسم الجامع فرصة إعداد ورسم خطة لإنقاذ أنفسكم من طوفان مقبل، رحم الله الغزالى، وكل عام وأنتم بخير.
كان الشيخ محمد الغزالى مفكرا عظيما ومصلحا رائعا وداعية لا يشق له غبار ومحبا عظيما للإسلام العظيم منافحا قويا عن كل معانى الفضيلة والإنسانية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved