كومبارس فيلم البطل الأوحد

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأحد 9 أغسطس 2009 - 9:31 م بتوقيت القاهرة

أخيرا وجدنا مسئولا آخر استقال من موقعه لأنه وجد نفسه أنه غير قادر على أداء مهمته بسبب المشاكل، التى يواجهها وهو خبر مفرح لا ريب، رغم أن المسئول هو رئيس الاتحاد العام لمنتجى الدواجن، الدكتور نبيل درويش أدرى أن هناك من سيلوى شفته قائلا إن الرجل ترك موقعا صغيرا، وإن عائده عليه ربما لم يكن مجزيا، وأنه حين وجد المشاكل فى طريقه، ووازن بين المكاسب والخسائر، وبين راحة البال والصداع الذى يتحمله جراء تلك المشاكل، فإنه قرر ترك منصبه غير آسف عليه، هذا كله لا أستبعده، ولكن أكثر ما يهمنى هو إثبات مبدأ الاستقالة حين يتعذر الإنجاز، وهو ما تمنيته يوما ما، وكتبت فيه أكثر من مرة، متى يستقيل المسئول العربى؟.. بعدما لاحظنا أن ذلك المسئول لا يكاد يحتل منصبا حتى يعمر على كرسيه، إلى أن يقصف عمر أحدهما، فيقوم عزرائيل بوظيفته فى قبض روح المذكور، أو ينزع الكرسى بالعافية أو بالأمر المباشر الصادر من القاعد فى الكرسى الأكبر والأرفع.

طالما تمنيت أن نطبق فى عالم السياسة وفى العمل العام الأعراف المستقرة فى أندية كرة القدم، فالمدرب يستقيل إذا فشل فى تحقيق الإنجاز المطلوب منه، واللاعب لا يستمر فى الملعب إلا إذا كان محتفظا بلياقته وأدى ما عليه بأفضل صورة ممكنة. ولكن يبدو أن ذلك سيظل حلما بعيد المنال طالما أن المسئول كان مقتنعا بأنه خادم للسلطان وليس خادما للشعب. إذ فى هذه الحالة سيصبح كل جهده منصبا على تعزيز ثقة السلطان فيه واستجلاب رضاه. ولن يهمه الفشل أو الإنجاز، ورضاء الناس عنه أم سخطه عليه.

إذا قلت إن ما أقدم عليه رئيس اتحاد الدواجن هو تصرف فرد لا يعول عليه ولا حكم له، فإننى على حق. وإذا قلت أيضا إن الأهم هو القيم الثقافية السائدة فى مجال العمل العام. وهى لا تسمح بتكرار النموذج فقد عداك العيب. لكنك إذا اخترت ألا تبالى بالخبر وتشيح ببصرك عنه، أو تقرأ منه سطرا وتتجاهل الباقى، فأنت تخطئ فى حق نفسك، وتحرمها من لحظة تفاؤل لا أحد يعرف متى ستكرر.

لقد استقال أحد عشر وزيرا من حكومة جورج براون فى بريطانيا، بسبب إساءة استخدام المال العام، والمخالفات المالية التى ارتكبوها. وعندنا تبجح أحد الوزراء السابقين قبل أيام، وقال على شاشة التليفزيون إنه وهو فى منصبه وزع الأراضى والعقارات المملوكة للدولة على أفراد أسرته بسخاء لم يتردد فيه. وامتلأ سجله بما لا حصر له بالمفاسد. ومع ذلك تمت مكافأته واستعاد نجوميته، لسبب جوهرى، أنه لم يقصر يوما فى خدمة السلطان.

مع ذلك ومن باب الرياضة الذهنية فقط، حاول أن تستثمر لحظة التفاؤل التى رجوتك أن تتعلق بها، وتخيل أن ما فعله رئيس اتحاد الدواجن أحرج آخرين ممن هم على شاكلته، فقرر أحدهم أن يستقيل بدوره، مما شجع مسئولا آخر على أن يفعلها، ثم كبرت المسألة حين أبرزت صحف المعارضة أخبارا مثل هذه الاستقالات وشجعت عليها. الأمر الذى حول الخبر إلى ظاهرة، فاستقال محافظ القليوبية بسبب انتشار التيفود بين أهل محافظته إزاء انتشار عملية اختلاط مياه الشرب بالمجارى، واستقال بعد ذلك وزير الصحة لأنه لم يستطع أن يحمى البلاد من إنفلونزا الطيور أو الخنازير. واستقال وزير البيئة لأنه لم ينجح فى القضاء على السحابة السوداء، ثم استقال وزير التعليم بسبب انهيار العملية التعليمية، وتحول الناس عن مدارس الحكومة إلى المدارس الخاصة.

واستقال بعد ذلك وزير المالية بعدما أسهم فى إشعال نار الغلاء بالبلد، واستقال وزير الخارجية حين اكتشف أن البلد فقد هيبته وسمعته، كما استقال وزير الداخلية بعدما انتشرت ظاهرة توحش الشرطة، واشتراك بعض عناصرها فى تهديد الأمن بدلا من حمايته.. إلخ.

إذ استرسلت فى الخيال، ستدرك فى لحظة أنه لم يبق مسئول فى موقعه، وقبل أن تسود الدنيا فى عينيك إزاء خلو مواقع السلطة من شاغليها، لن ينقذك من اليأس سوى إدراكك أن شيئا لم يتغير لأن واحدا فقط بقى ثابتا فى مقعده لم يتزحزح عنه، ممسكا بكل الخيوط فى يده. واكتشافك أن الذين رحلوا لم يكونوا سوى
«كومبارس» فى فيلم البطل الأوحد.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved