عن السلطان أردوغان.. ومقاربة لتجارب «السلاطين العرب» مع الانقلاب!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 9 أغسطس 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

مع نجاح الانقلاب على مشروع الانقلاب فى تركيا، يكتسب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ملامح أتاتوركية، وهو «المدنى» نشأة، «الإخوانى» تربية سياسية، والمسكون بطلب السلطة والمزيد من السلطة حتى ليبدو تجسيدا للديكتاتور، بما يتجاوز السلاطين فى عز سيطرتهم على البلاد والعباد من أقصى المشرق إلى قلب الغرب الأوروبى.

لقد حقق نجاحا مؤزرا أكد معه ـ مجددا ـ سيطرته على هذه الدولة المهمة موقعا وقدرات، والتى أعاد بناءها تقريبا، وفق خطة مدروسة مكنته من شطب خصومه الكثر بل واستئصال بعض حلفائه التاريخيين حتى خلا له الجو فجمع بين يديه السلطة جميعا، وبات المصدر الوحيد للقرار. هو الآمر الناهى بلا شريك وربما بلا حليف إلا اضطرارا ومؤقتا.

بل إنه أعاد صيغة الحزب الإسلامى الذى نشأ فيه فوفر له الفرصة لسلسلة من القفزات التى مكنته من السيطرة على بلدية إسطنبول، بداية، ثم تدرج صعودا إلى رئاسة الحكومة فإلى رئاسة الدولة التى يطمح الآن ليستقر فيها.. إلى الأبد؟

إن تجربة أردوغان الغنية «تغرى» باستعادة بعض التجارب الحزبية العربية فى القفز إلى السلطة، ثم البقاء فيها عبر صراعات استمرت ردحا طويلا من الزمن، قبل أن تستتب الأمور للأقوى بين المتصارعين على القيادة. وهى صراعات كلفت الكثير من الدم ومن الأحزاب ذات الشعارات البراقة، البعث العربى الاشتراكى خصوصا فى سوريا والعراق، وحركة القوميين العرب فى تجربتهم اليتيمة فى جنوب اليمن حيث قامت تحت رايتها «جمهورية اليمن الديمقراطية»، ثم أسقطت الراية وبعدها الجمهورية ذاتها بعدما استيسر القوميون وتمركسوا، فى حين كان الاتحاد السوفيتى يتهاوى ومعه الحزب الشيوعى الحاكم بل والشيوعية جميعا.

البعث حاكما... فى العراق

قامت تجارب حزب البعث فى سوريا كما فى العراق، على الاستعانة بالعسكريين للقفز إلى السلطة، وانتهت بسيطرة قائد فرد بعثى بالأساس على مركز الحكم تحت الشعار الحزبى، ليتوارى هذا الشعار لاحقا خلف «القائد الخالد» الذى يحكم منفردا، باسم الحزب بعدما يعيد صياغة قياداته ـ القومية والقطرية ـ بما يضمن سيطرته على السلطة جميعا وبالتالى على الدولة بمؤسساتها العسكرية والمدنية كافة.

بدأت محاولات حزب البعث للدخول إلى السلطة فى العراق مع نجاح ثورة 14 يوليو 1958، بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم. لكن الشيوعيين كانوا أقرب إلى الزعيم، وهكذا فقد أفشلوا خطة البعثيين، ثم حرضوا الزعيم وساعدوه على «استئصالهم» تحت شعار «ماكو زعيم إلا كريم».

ولسوف تشهد بغداد بعد ثلاث سنوات «أى فى عام 1961» محاولة لاغتيال عبدالكريم قاسم، نظمها البعثيون، كمنطلق للثورة. لكن المحاولة لم تنجح، وانتهى الأمر بالقبض على معظم القيادات البعثية «كان صدام حسين بين من حاولوا تنفيذ الاغتيال، وقد أصيب يومها بجراح». وقد هرب بعض القياديين ممن استطاعوا إلى ذلك سبيلا إلى سوريا، ومنها انتقلوا ليعيشوا بعض الوقت فى مصر كلاجئين سياسيين.. وكان بينهم صدام حسين نفسه.

بعد ذلك ستنجح محاولة ثانية للانقلاب شارك فيها البعثيون، لكن قيادتها كانت للعسكريين، وبالتحديد لعبدالسلام عارف، الذى كان الرجل الثانى فى ثورة 1958. ومرة أخرى، عمد العسكر بعد فترة، إلى تحجيم دور البعثيين. ثم جاء سقوط طائرة عبدالسلام عارف، فى بعض أنحاء العراق، ليوفر فرصة لشقيقه عبدالرحمن عارف، لكى يتولى قمة السلطة فى بغداد. وسيكون على البعثيين أن يعيدوا نسج تحالفاتهم مع بعض العسكريين تمهيدا للقفز إلى السلطة فى 17 يوليو 1968. ثم سيكون عليهم أن يصفوا حلفاءهم من العسكر تدريجا حتى استتب الأمر لهم تماما، تحت قيادة أحمد حسن البكر، لكن السلطة استقرت فعليا بين يدى «سيادة النائب» صدام حسين، وهو نسيب البكر. وكان بديهيا أن يختفى البكر تماما بعد حين لتستقر السلطة، كل السلطة، بين يدى صدام حسين فحكم منفردا حتى الاجتياح الأمريكى للعراق فى أبريل عام 2003.

بذلك انتهت تجربة حزب البعث مأساويا، وانتهى معه العراق الذى كان، فاجتاحه الأمريكيون (ومعهم بعض العسكر العرب حتى لا تتبدى العملية كما هى حقيقتها، احتلالا عسكريا أمريكيا للعراق).

.. والبعث حاكما فى سوريا

فى أواخر سبتمبر 1961 وقع انقلاب عسكرى فى دمشق أطاح دولة الوحدة بإخراج سوريا من الجمهورية العربية المتحدة، ولقد رفض الرئيس جمال عبدالناصر أن يقاتل فى سوريا بالجيش المصرى لحماية دولة الوحدة.. فتم الانفصال.

كان طبيعيا أن تستعيد السلطة فى سوريا سيرتها الأولى، وأن يقع انقلاب ثانٍ فثالث.. وأن يعود حزب البعث إلى الظهور، ثم إلى المشاركة فى السلطة الجديدة، وأن يحاول تجديد العلاقة مع القاهرة، ومعه الحكم الذى يقوده الآن فى العراق بعثيون.

وهكذا بدأت محاولة لم تكن جدية تماما لإقامة وحدة ثلاثية بين مصر عبدالناصر وحزب البعث الحاكم، تلك اللحظة، فى كل من دمشق وبغداد، انتهت بالعودة إلى الصراع المفتوح.

فى هذه الأثناء، تحرك مناصرو الوحدة فى دمشق فى محاولة لقلب نظام الحكم ففشلت حركتهم. وسادت فوضى عسكرية فى سوريا أفاد منها البعثيون للسيطرة على بعض المواقع الحاكمة. وهكذا أمسك عدد منهم بمفاصل حساسة، فصار لصلاح جديد موقع قيادى بارز، بينما تمت ترقية حافظ الأسد فقفز إلى وزارة الدفاع، محافظا على موقعه كقائد للقوى الجوية. وهكذا أمكنه فتح دورات عسكرية متوالية حشد فيها من استطاع من تلامذة الضباط. وحين وقعت حرب 1967 توجه الاتهام بالتقصير إلى القوى السياسية، وتمكن حزب البعث من الإمساك ببعض المواقع الحاكمة. على أن الفريق حافظ الأسد استمر يعمل بهدوء للسيطرة على مراكز السلطة كافة، وحين تم له ذلك أنجز انقلابه فى النصف الثانى من أكتوبر 1970. وقد استعان بمجموعة من الخبراء والقيادات العسكرية يمثلون مختلف المناطق السورية «حكمت الشهابى من حلب، عبدالحليم خدام من بانياس على الشاطئ، الكسم والحلبى من دمشق، الزعبى والشرع من درعا، طلاس من حمص». وكان طبيعيا أن يعزز وجود أبناء الريف الساحلى «منطقة اللاذقية وجبالها» فى الجيش وأجهزة الأمن.

كان الحكم له بالمطلق، لكن شعارات الحزب فى كل مكان، وثمة قيادة قطرية مختارة بعناية، وقيادة قومية «شكلية»، لكنها تلقى غلالة على الحكم تموه حقيقة أنه لرجل واحد يعاونه عدد من «الرفاق المناضلين الأوفياء».

مع رحيل حافظ الأسد، تم التحضير على عجل لإعداد بشار الأسد للرئاسة وتسلمها فعلا.

.. والسلطان يتوج نفسه

الخلاصات المستفادة من هذه التجارب تشير إلى أن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان قد تحلى بالصبر وهو يتقدم ليشارك فى السلطة، ثم ليتقدم الصفوف إلى الموقع الأول. وكان خصمه اللدود الذى يطارده اليوم، فتح الله جولن، حليفه القوى، يسانده ـ وهو من الدعاة الإسلاميين ـ بوصفه ممثل الإخوان المسلمين ورئيس الدولة باسمهم وبحزبهم.

ولقد اتبع أردوغان نهج التقدم بهدوء، ولكن بثبات، للسيطرة على مفاصل الحكم، مستعينا فى تقدمه بشعارات الديمقراطية وتجميع القوى السياسية جميعا، بمن فيها المعارضة، «ما عدا المنظمات الكردية المقاتلة» لمواجهة احتمال عودة العسكر إلى الحكم. مستذكرا أن العسكر قد حكموا تركيا، وبالرضا الأمريكى ومن دون اعتراض أوروبى جدى، نحو نصف قرن.

فى تقدير الخبراء، وقد أكدت الأحداث هذا التقدير، أن أردوغان الطامح إلى التفرد بالسلطة، قد تقدم إليها بهدوء، متحالفا فى البداية، مع قوى سياسية وازنة، ودائما لمواجهة العسكر.

لكن أردوغان المتطلع إلى عرش السلطان، قد تلاعب برفاق نضاله، فرفع البعض منهم إلى أعلى مواقع السلطة، ثم خلعهم منها بلا تفسير، فخسر صداقتهم، لكنهم ظلوا يشتركون معه فى الارتياب بالعسكر. هكذا عندما حانت اللحظة ودفع الطموح إلى السلطة ببعض الضباط إلى التجمع ومباشرة الإعداد لانقلاب، كان أردوغان حاضرا فضرب ضربته الحاسمة ثم اندفع يستأصل كل من يشتبه بهم، ضباطا وجنودا، قضاة ومدرسين وطلابا، إداريين وموظفين. وهو يتابع حملته بلا رحمة، ويكاد يتوج نفسه سلطانا جديدا.. ولكن عرشه عرضة لرياح عنيفة بعد، من الخارج، أساسا، الذى لم يعد يقبل السلاطين، ثم من الداخل الذى تم هزه بعنف صدمه فجمده.. ولكن السؤال: إلى متى؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved