ما هو الدين؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 9 أغسطس 2019 - 11:25 م بتوقيت القاهرة

بحسب الإحصاءات العالمية يعتبر الدين هو أكثر الدعاوى انتشارا فى العالم، بالطبع نحن هنا لا نتحدث عن الأديان السماوية فقط، لكن عن الدين بشكل مطلق، فالدين على مختلف أشكاله وأنواعه هو من أكثر الدعاوى شهرة وجاذبية، فالإنسان منذ أن بدأت عضلة التفكير عنده تعمل عندما بدأ يفكر فى ما ومن يتحكم فى الزمان، يتحكم فى الأعاصير والزلازل... إلخ، وما ومن هو الأقوى منه؟ أو الأعلى فوقه؟ ذاك الذى يصنع مصيره، وهل هذا الذى يفكر فيه ككائن أعظم وأعلى منه، هل هو موجود فعلا؟، أو مجرد خيال من بنات أفكاره؟. عندما وجد الإنسان نفسه ككائن عاقل يفكر ويعمل ويصنع أسرة ويحميها من الأخطار، ويعمر الأرض، وأيضا أنه يكبر ويضعف ويموت ويندثر لا كإنسان فى المطلق لكن كأفراد. من هنا بدأ يفكر الإنسان لماذا لا يكون هناك إنسان لا يموت ينتصر على الفناء؟ أو لماذا لا يوجد نموذج إنسانى أقوى منه؟ أو كائن أسمى يحيا لا يموت، ولا يجوع أو يعطش، ولا يتغير؟ من هنا جاءت فكرة الإله عند الإنسان، وهنا جاءت ظاهرة أو فكرة الدين، فعلى مدى التاريخ لوحظ أن موقف الإنسان من الدين يتغير ويتحول، وأنه لا يوجد اتفاق على تعريف الدين بشكل عام وماذا يعنى الدين الحقيقى أو الصحيح؟ أو الدين غير الحقيقى أو المزور؟ وليس هذا فقط بل وأيضا ليس هناك إجماع عند البشر على ماذا تعنيه الحقائق الدينية السائدة؟ وليس هناك اتفاق على ما تعنيه الحقيقة فى الدين، فكل دين له حقائق ومعان تختلف عن حقائق ومعانى الأديان الأخرى. لذلك كل دين أصبح له مذاهب متعددة، وكل مذهب يعرف الحقيقة بشكل مختلف عن المذاهب الأخرى فى ذات الدين. لذلك لا يجب التوقف عند نقطة معينة فى بحثنا عن ظاهرة الدين أو الأديان، حيث إننا جميعا نعلم أن الدين واقع حاضر وقائم فى كل مكان أو معظم الأماكن على الأقل وعلى مدى التاريخ الإنسانى، وبالتالى على علماء الدين والفلسفة والأدب والمنطق فى كل مكان وعلى اختلاف أديانهم ألا يغرقوا فى الدروس الدينية والتعليم الدينى ويتناسوا أهمية مناقشة المبادئ الأساسية العامة للأديان وإمكانيات الفهم الصحيح لها.

***

وهنا علينا أن نتفق على أن الأديان على إطلاقها تمد العالم بالمعنى، والمقصود بالمعنى هنا معنى الوجود الإنسانى وأهدافه من وجهة نظر الأديان، وإذا كانت الأديان الشرق آسيوية تركز على وحدة الوجود الصوفية، فيكون الله والعالم والإنسان وحدة واحدة، بمعنى واحد، ففى الأديان التى وصفت بالسماوية ترفض هذا الفكر وتؤمن أن الله هو الذى يمد العالم بالمعنى فالله ليس هو العالم، ولذلك فالحقيقة الدينية العليا هى التى تظهر الإنسان من الداخل، فطبيعة الإنسان وأخلاقه تتطور وفق تطور إيمانه، فالدين يقدم قوة الإيمان الذى ينقى داخل الإنسان، لذلك صار الإيمان يساوى «الاستقامة» أو استقامة الإنسان والتى هى رأس الفضائل الدينية وهى التى تحدد مقدار إيمانه، بل والأكثر من ذلك، أن الدين يحتوى على نظام يقدم حقائق عامة مطلقة تؤدى بالضرورة إلى إحداث تغيير فى الأخلاق والسلوك عند الفرد والجماعة، ذلك إذا أخذت على محمل الجد، وإذا عاشها المؤمن باقتناع عاطفى عميق وحى، وفى تعريف اتفق عليه فلاسفة الأديان ومنظروها «أن الدين يعنى التوحد والانفراد، فالذى لا يمر بخبرة الوحدة والانعزال مع إلهه لن يكون متدينا، ولذلك اتفقوا على أن الحماسات الجماعية التى يحدث فيها التصفيق والرقص الدينى على جميع مستوياتهما، بل وحركات الإحياء ودور العبادة على إطلاقها وترجمات الكتب المقدسة وشروحاتها، كلها هذه تتغير بتغير الزمن والحضارة واللغة والمكان، وهى تسد احتياجات بشرية عابرة بحسب حضارة وثقافة ولغة العابدين، أما الشيء الثابت فهو القيمة الفردية الأخلاقية العالية السامية التى تغير الفرد والجماعة، لذلك فليس كل اعتقاد دينى هو خير بالضرورة، فالأمر الفاصل فى هذا الشأن هو هل يغير الدين بقيمه قيم المجتمع إلى الأفضل؟! أم إلى الأسوأ؟ هل هذا الدين أو ذاك يحض على الكراهية والتمييز أو يشجع على الانعزال عن العالم أو التعالى عليه؟ إن الاختبار الحقيقى لسلبية أو إيجابية أى دين هو الإجابة عن سؤال: هل أدى هذا الدين إلى السمو بالإنسان فى علاقته بالله وبأخيه الإنسان بل بالحيوان والنبات والطبيعة... إلخ؟ وهذا لا يمكن التعرف عليه إلا عندما نحلل أى دين فى تجاربه وتعاليمه وظواهره فى التاريخ على مدى القرون الخالية، ونسأل إلى ماذا يهدف هذا الدين؟ هل إلى السمو والارتفاع والإنسانية أم إلى الانحدار والخيبة والصراع؟! وقد اتفق علماء الأديان على أن تجليات ومظاهر الدين تتلخص فى أربعة أبعاد:

الشعائر والمشاعر والإيمان والعقلنة، فالدين يعنى شعائر منظمة (عبادة)، ويعنى أيضا أشكالا محددة ومنضبطة من الأحاسيس والمشاعر، ويعنى ثالثا صياغات محددة عن الإيمان أو العقيدة، ويعنى أخيرا أن كل هذه الأشكال تنضبط بالعقلنة والمنطق. ولقد مرت كل الأديان تاريخيًا بهذه الأبعاد الأربعة بتطورات واضحة، فبدلا من مركزية «الجماعة» أصبح الفرد هو المركز، أو على الأقل الحلقة الدينية الأقوى، وعلى مستوى الشعائر فقد طقس الرقص القبلى الجماعى والتصفيق قيمته فى مقابل الصلاة الفردية أو الجماعية الخاشعة، وإن كانت بعض الشعوب تستعيد ذلك فى أوقات ضعفها وأزماتها الاقتصادية والثقافية والفكرية، وفى تحليل تاريخى ثبت أن التطور باتجاه «الدين المعقلن» إنما يحصل نتيجة ظهور وعى عالمى أو وعى بالعالم، حيث تمددت ديانات كثيرة إلى حدود العقلانية، ولأن هذا الوعى عالمى فإنه يظل بدوره قرونا متفردا، إن عنصر التفرد فى الدين يمكن أن نلمسه بتحليل مختلف التجارب الدينية التى تجسد نوعا من أنواع العقلنة الصادرة عن الإحساس المباشر للعابدين بالله، ومن جهة أخرى يمكننا القول، إن عقائد الدين ونصوصه ومقولاته تظهر بوضوح فى التجربة الإنسانية لمن يعشقونه باعتباره كشفا واضحًا عن الحقائق المستورة، أو اللاهوت أو الفقه المخفى والمحفوظ فى عقول المعتقدين به نتيجة التعاليم التى تلقوها عبر الزمن وورثوها عبر الأجيال.

***

من هنا يمكننا القول إن الدين يتأسس نتيجة تجمع ثلاثة مفاهيم رئيسية وتفاعلها معًا فى لحظة من لحظات الوعى الإنسانى، وهذه المفاهيم هى التى تكون علاقات المؤمنين بالوقائع والأشياء وذلك فى تفاعلاتها وتردداتها المتغيرة مع بعضها البعض، وهذه المفاهيم الثلاثة هى: القيمة الذاتية للفرد الإنسانى، ثم القيمة الجماعية التى تظهر فى تفاعلات الأفراد ببعضهم البعض، وأخيرا قيمة العالم الموضوعى الذى يحيط بهؤلاء الأفراد والجماعات، والذى يتشكل بمبادئهم وعلاقاتهم، فيصنع إطارا وواقعا وبيئة ومكانا ضروريا وحتميا لوجود كل فرد واستمراره حيًا وفاعلا فى وسط الجماعة لأجل استمرارها بقوة وحيوية. بلا شك أن لحظة الوعى الدينى إنما تنطلق أساسا من الإحساس بقيمة الذات، ثم تتسع بعد ذلك قيمة الذات للآخرين لتصبح مفهوما للعالمين باعتباره فلكا للنجاة لهذه الجماعة، وذلك خلال منظومة قيم تتعمق وتتجذر وتمتد بالعلاقات التى تربط بين بعضهم البعض. وتبعا لذلك ينقسم هذا المجتمع إلى قسمين: الأول يعطى القيمة العظمى لأفراد منه يدعون بأن لهم صلة خاصة بالسماء ويتلقون رسائل يومية للأفراد والمجتمع، ويصنعون معجزات، ويشفون أمراضا ويتحدثون عما هو قادم ويخرجون الجن والشيطان من جسد الإنسان. وعادة هؤلاء يكونون غير دارسين لتطور دينهم لاهوتيًا أو فقهيا ونضج إيمانهم عبر التاريخ، لذلك لا يكون فى حسابهم الخبرة الدينية التاريخية ولا التطور اللاهوتى أو الفقهى لذلك يقفزون فوقها، بل فوق الكتب المقدسة أيضا والتى هى قاعدة هذه الخبرة، أما القسم الثانى فهم أولئك الذين يتبنون «فطرة» الاتجاه لما هو صحيح وحقيقى الموجودة فى طبيعة الأشياء أو فطرتها ولذلك فى أى حدث أو قضية يعودون لخبرة الكتب المقدسة الأصيلة وتفاصيلها المعتمدة عبر التاريخ وهكذا تضع نفسها فى الاتساق المثالى المعاصر لهذه الخبرة التاريخية، وبهذا الاتساق فى العالم الحقيقى يتوافق الفكر مع طبيعة الأشياء، ولا يقفز لحدس أو إعلان يأتى من فوق لأفراد بغض النظر عن اتساقه مع الكتب المقدسة، والعالم الحقيقى الذى يعيشون فيه.

يقول أحد المحللين للظاهرتين إذا اعتبرنا أن «الخبرة الدينية» ناجمة عن التواصل الغيبى بالإله الذى يعطى مواهب مختلفة لبعض الأفراد، فإننا لا يمكن أن نأمل الحصول على توافق كبير، لأن التيارات الرئيسية والعقلانية والتاريخية للتفكير الدينى تتناقض فيما يتعلق بهذه المسألة، هذا فضلا على أن الرسائل القادمة تتجاوز الكتب المقدسة وكذلك الخبرات الدينية التى تأتى من أعلى عادة تكون متناقضة للحالة الواحدة، فما بالك لو أردنا أن نصيغ قانونا عاما لهذه الظاهرة؟!

وبالنسبة لأولئك الذين يسيرون فى هذا السبيل (تأسيس الإيمان على رسائل مباشرة من أعلى)، فإن هناك أملا واحدا وهو إحلال «العاطفة والإحساس» محل «العقل» وعندها يمكن البرهنة على صحة أى رأى فى الوجود وعكسه. لكن هذا بالطبع لا يصلح ولا يقنع العقلاء. إن العقل الإنسانى مع الكتب المقدسة المعتمدة عبر التاريخ المقدس للجماعة فى تطبيقها لهذه الكتب فى تاريخها وظروفها، هو الضمان الحقيقى لموضوعية الدين، فهو وحده فقط الذى يضمن الاتساق العام الذى تفتقر إليه حركات اتصال الأفراد بالإله فى كل حدث، وهنا تتجلى الكارثة فى متناقضات مثل هذه الرسائل طبقًا لتناقض المواقف والزمان والمكان. ورغم تجمع الجماهير الساذجة من حولهم فى كل عصر إلا أنهم أكبر فاعل فى تدمير الدين وانحساره لأن هذه الجماهير تنتهى إلى لا شيء، حيث لا تستند على هوية الدين أو تاريخه لأنهم لا يدركون التاريخ الدينى ولا تطوره أو عمقه فكل قائد له هوية مختلفة، وتاريخ مختلف خاص به لا يتسق مع تاريخ الدين وتطوره عبر الزمن والنتيجة تجميد الفرد وضياع الجماعة. وهو ما نراه بكثرة هذه الأيام فى الدول النامية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved