التداعيات المحتملة للانفجار اللبنانى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 9 أغسطس 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

لكل أزمة مستحكمة تاريخ يصعب تجاوز مواريثه فيما يحدث ويستجد من مآس وكوارث سياسية وإنسانية.
ذلك حال الأزمة اللبنانية المتفاقمة تحت وهج الانفجار، الذى دمر نصف بيروت وروع أهلها وقوض ثقتها فى مستقبلها.
لم تنشأ الأزمة بتداعيات التدهور الاقتصادى وانهيار سعر الليرة وارتفاع معدلات البطالة وغلاء أسعار السلع الأساسية.
هذه تجليات الأزمة، لا الأزمة نفسها.
ولا نشأت بتداعيات الانتفاضة اللبنانية فى (17) أكتوبر (2019)، التى أجهضت بالتوظيف السياسى الزائد لتصفية حسابات، أو خشية نتائجها على مصالح استقرت حتى كادت تزهق روح البلد وقدرته على البقاء.
وهذه أوضاع انسداد سياسى يصعب تجاوزه دون تغيير فى البيئة العامة وبنية الحكم نفسها.
كان الانفجار بتداعياته تجسيدا لفشل الدولة بكل مكوناتها والأطراف الفاعلة فى معادلاتها، لا الحكومة وحدها.
إذا ما سقطت الحكومة بدواعى امتصاص الغضب الشعبى وبقيت المعادلات السياسية على حالها، وأعاد النظام الطائفى إنتاج نفسه فإنه ليس بوسع لبنان أن يتطلع إلى مغادرة أزمته المستحكمة.
تغيير الجياد ليس حلا فى بلد دفع أثمانا باهظة لتقاسم النفوذ والثروة والسلطة بين نخب طائفية تتغير وجوهها عبر الأزمان دون أن تمس قواعد اللعبة السياسية أية تعديلات جراحية فى بنيته التى تقادمت عليها العقود.
الأزمة اللبنانية تعود إلى نشأة الدولة نفسها.
أرجو ألا ننسى أن الجنرال الفرنسى «جوزيف أوجين غورو» هو من أعلن «لبنان الكبير» كدولة مستقلة وأعاد ترسيم حدودها بقوة السلاح معلنا فرض الانتداب على البلدين الممزقين سوريا ولبنان بعدما كانا دولة واحدة.
كان ذلك فى سبتمبر (1920) بعد أن صمتت مدافع الحرب العالمية الأولى وفق تفاهمات بريطانية ــ فرنسية جرت قبل أربعة أعوام (1916) عرفت باسم اتفاقية «سايكس ــ بيكو».
فى وقت متزامن جرى فرض الانتداب البريطانى على فلسطين والعراق، وكانت النتائج كارثية على الفلسطينيين، التى شهدت بلادهم عام (1948) نكبتها الكبرى.
لم ينشأ لبنان بإرادة اللبنانيين، ولا كانوا هم من أعلنوا دولتهم المستقلة.
هذه حقيقة أولى مازالت آثارها وظلالها ممتدة حتى اليوم فى صلب الأزمة المستحكمة.
وأرجو ألا ننسى أن الدول الغربية الكبرى استثمرت فى الصدامات الدموية التى نشبت منتصف القرن التاسع عشر بين الدروز والموارنة لطرح فكرة إنشاء «إمارة كاثوليكية».
بشهادة القنصل الروسى فى بيروت «قسطنطين بازيلي»، الذى كان متواجدا فى قلب الحوادث وموثقا لوقائعها: «لم تكن العداوة الدينية سبب الاحتراب بل نتيجة لها».
هذه حقيقة ثانية تكشف ما جرى من تفكيك وإضعاف للعالم العربى استثمارا فى ثغرات مجتمعاته.
فى عام (1932)، بعد إعلان «لبنان الكبير» باثنى عشر عاما، جرى توزيع المناصب الرسمية والمراكز العليا بين الطوائف وفق نسبة كل منها إلى التعداد العام للسكان، الذى أجرى وقتها.
كانت النسبة الأكبر للمسيحيين، غير أن النسب تعدلت فى ضوء ما أسفرت عنه الحرب الأهلية اللبنانية منتصف سبعينيات القرن الماضى من حقائق وتوازنات عبرت عن نفسها فى اتفاقية «الطائف» عام (1989).
وفق تلك الاتفاقية أصبحت المحاصصة مناصفة بين الطوائف المسيحية والمسلمة.
من عصر لآخر أعاد النظام الطائفى إنتاج نفسه حتى استنزف طاقته على البقاء دون أن يغادر مواقع السلطة والنفوذ لتغلغل المصالح المرتبطة به فى بنية المجتمع اللبنانى، كما فى أهداف اللاعبين الإقليميين والدوليين.
هذه حقيقة ثالثة تخيم على المستقبل اللبنانى وتجعل من إعادة بناء الأمل بإلغاء النظام الطائفى مهمة عسيرة.
أخطر ما يعترض لبنان الآن تقوض أية ثقة فى الدولة والنخب السياسية التى تتنازع المناصب والنفوذ على خلفيات طائفية.
علت أصوات عديدة تطلب التحقيق الدولى فى حادث مرفأ بيروت المروع للوقوف على أسبابه الحقيقة، من يتحمل مسئولية ما جرى، وإذا ما كان مدبرا أو أن وقائعه جرت بالإهمال الجسيم فى توفير إجراءات الأمان.
كان ذلك تعبيرا عن فجوات ثقة هائلة مع الحكومة اللبنانية، التى أعلنت بدء التحقيقات، وأنها سوف تعلن نتائجها خلال أيام، إلا أن أحدا لا يبدو مستعدا أن يصدق تعهداتها، أو ما قد تتوصل إليه.
هذه مأساة كاملة فى بلد فقد بوصلته السياسية وتتضارب نزعاته فيما هو يصارع الغرق.
لم يكن ممكنا لأحد من أركان الحكم أن يذهب للمواضع الأكثر تضررا من الانفجار خشية الغضب الشعبى.
ولا بدا أن أحدا مستعد لتحمل مسئوليته بالاستقالة، رغم أنها لا تقدم ولا تؤخر إذا ما بقيت المعادلات الحاكمة على حالها.
من أسوأ ما جرى بعد الانفجار ارتفاع منسوب المناكفات السياسية بين الفرقاء، رغم أنهم يتحملون بدرجات مختلفة مسئولية ما وصل إليه لبنان من أحوال كارثية تقارب الانهيار.
بدواع استراتيجية وإنسانية تدافعت قوى عربية وغربية عديدة لمد يد العون للبنان، بعضها مدفوعة بالتعاطف والتضامن وبعضها الآخر سعيا لتوظيف الانفجار وفق مصالحها الاستراتيجية فى هذه المنطقة من العالم.
هناك فارق جوهرى بين الدواعى الإنسانية والحسابات الاستراتيجية، بين ضرورات إنعاش الاقتصاد المأزوم الذى يوشك على الإفلاس والتوظيف السياسى لأية تدفقات مالية محتملة فى إعادة ترتيب شبكه المصالح الاستراتيجية والاقتصادية.
أرجح الاحتمالات بعد انقضاء أحاديث العلاقات العامة أن أحدا لن يضخ دولارا واحدا بلا اشتراطات مسبقة تخضع لبنان لما يريده هو من حسابات ومصالح لا لما يصلح أحواله أهله ببناء نظام جديد يلغى المحاصصة الطائفية ويحارب الفساد المستشرى.
بالتقديرات الرسمية الأولية فإن حجم الخسائر المترتبة على الانفجار تتراوح بين عشرة وخمسة عشر مليار دولار.
من يسدد الفواتير؟.. وما الأثمان المقابلة؟
أيهما أولا: الإصلاح السياسى أم الإصلاح الاقتصادي؟
تلك إشكالية مستحكمة، فلا غنى لأحدهما عن الآخر.
إذا لم تتوفر خريطة طريق متماسكة ومقنعة فإن الأزمة المستحكمة سوف تتمدد إلى المستقبل بمخاطر يصعب تجنبها على وجود البلد نفسه.
أسوأ ما جرى على الإطلاق وسط أزمة وجودية خانقة الدعوة بصوت مرتفع مسموع لعودة الانتداب فى بيان موقع من نحو (36) ألف لبنانى أثناء زيارة الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون».
الدعوة بنصها وتوقيتها تعبير عن عمق الأزمة، وأنها ربما تتجاوز أية محرمات، كأن ضربة على الدماغ أفقدت بعض مكونات البلد اتزانه السياسى والنفسى بما قد يقوض السلم الأهلى بأخطر مما جرى فى الحرب الأهلية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved