تحديات النقل الذكي

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 9 أغسطس 2021 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

إذا كنت من معتادى السفر خارج البلاد، ومن محبى عقد الصداقات مع مختلف الشعوب، فإن أول ما يطرح فى الحديث عن تجربة هذا الشخص أو ذاك مع السياحة فى بلدك هو مدى سهولة حركة النقل، وطبيعة الحالة المرورية فى هذا البلد.
من تلك الزاوية تحديدا لم تكن آراء غالبية من قابلتهم فى أسفارى مشجّعة حول سهولة ومتعة السياحة فى مصر. حتى أولئك المنفتحين على التجارب النادرة والغريبة ومحبى المغامرات، لم تترك تجربتهم مع الشارع والطرق المصرية أثرا طيبا، بما يحفها من مخاطر وصعوبات غير معتادة بالنسبة للسائح الأوروبى والأمريكى على الوجه الخصوص.
هذه إذن هى الصورة الأولى التى تنطبع فى ذاكرة السائح تاركة أثرا يصعب محوه. وهى الصورة التى تبقى فى القائمة القصيرة لخيال السائحين، وسرعان ما تستدعى للتعبير عن رأيهم المختصر فى البلاد التى زاروها. تختزل طبيعتنا البديعة وحضارتنا الساحرة وشواطئنا الممتعة وأمننا المستتب فى مشهد سلبى واحد، لكنه للأسف مشهد ظاهر مؤثّر يجذبك من تلابيبك ليضعك قسرا أمام واقع مربك، يمتزج فيه الرونق بالفوضى والعشوائية، وترتفع فيه المخاطر إلى مستويات لا يمكن تصوّرها بالنسبة لفرد أو أسرة جاءوا طوعا للسياحة فى بلد عظيم، ثم كانت احتمالات عدم عودتهم سالمين إلى ديارهم أكبر من أى عائد منتظر لمتعة السياحة!
من ثم فإن تغيير الصورة السلبية للسائح عن بلدنا تتطلب أكثر من مجرد تطوير لتشريعات المرور بغرض حفظها فى كتيبات إرشادية أنيقة. ولكن منظومة المرور والنقل العام فى مصر يجب أن تشهد ثورة حقيقية، تجعلها أكثر انتظاما وتكاملا واعتمادية وتنوعا.
***
شق وتطوير الطرق والبنية الأساسية المرتبطة بها كان من الإنجازات التى عرفتها مصر خلال السنوات الأخيرة. وهى إنجازات ساهمت بشكل كبير فى حفز السياحة الداخلية، وتشجيع مبادرات إعادة التوزيع السكانى بما يخفف من الضغط على المدن القديمة، ويفتح فرصا للعمل والإقامة والسياحة فى مناطق لم يكن الوصول إليها بالأمر الهيّن. بل إن الوفر الذى يتحقق لخفض معدلات الحوادث وزمن الرحلات هو فى ذاته إنجاز عظيم.
هذا التطور الضرورى ليس بكاف، إذ ينقصه استراتيجية متكاملة للنقل، وحزمة من السياسات وآليات التطبيق التى تضع مصر فى الموقع اللائق بها بين الأمم. فكل الحلول التى يقدمها القطاع الخاص لتوفير خدمات النقل ينقصها الانتظام والتكامل. كما إن دولة كبيرة كمصر، عرفت وسائل النقل الجماعى قبل معظم دول العالم، وحلّت ثانية فى الترتيب الزمنى لدخول السكك الحديدية بعد إنجلترا، لجديرة بأن تكون لديها شبكة ذكية آمنة للنقل العام. ولأن التطور التكنولوجى قد نجح فى خلق واقع افتراضى لكل شىء تمهيدا لتحويله إلى واقع ملموس، فإنه يملك من الأدوات ما يصنع منظومة متكاملة لحركتى النقل والمرور، ويقدم من الحلول الذكية نظاما إلكترونيا واجِهته تذكرة موحّدة تصلح للاستخدام فى مختلف وسائل النقل، وخلفيته نظام محكم للمراقبة والمتابعة والتنسيق والمقاصة الإلكترونية بين مقدمى خدمات النقل من القطاعين الخاص والمملوك للدولة.
فالتذكرة الواحدة التى تصلح للاستخدام فى الأتوبيس ومترو الأنفاق والقطارات... هى محفظة من النقاط، تتعامل مع ماكينات للدفع فى محطات أى من تلك الوسائل، وبمجرد استخدام البطاقة للدفع فى محطة ما أو داخل وسيلة النقل ذاتها، فإن النقاط تستقطع فورا لصالح الجهة مقدمة الخدمة.
ما ينقصنا هو الإدارة بكل أشكالها ومراحلها، وليس فقط الإطار التنظيمى أو حتى التحديث المادى لبدائل النقل. فالإدارة الجيدة لأسطول النقل العام تقلل من الحاجة إلى مشتريات غير ضرورية من المركبات وقطع الغيار، والإدارة الرشيدة لحركة النقل تخفّض من تكاليف الوقود والتشغيل على نحو يساعد الدولة والقطاع الخاص على تخصيص أفضل للموارد، والإنفاق بفاعلية على احتياجات التطوير والصيانة الفعلية. وكذلك الإدارة المسئولة لحركة المرور وتغليظ العقوبات على المخالفين (دون استثناءات) تساعد على التخلّص التدريجى من العشوائية من منبعها، حتى ولو لم يكن التخلّص التام من الاختناقات المرورية ممكنا فى دولة يقطنها ما يزيد على مائة مليون مواطن.
على أن التكلفة المادية الكبيرة لتحديث أساطيل النقل العام وصيانتها بانتظام سوف يعوضها بالتأكيد إيرادات الدولة من الشمول الضريبى (إن جاز التعبير) لبدائل النقل الخاص والاقتصاد التشاركى، ناهيك طبعا عن الوفورات والمكاسب غير المباشرة وصيانة الأرواح التى لا تقدّر بثمن.
***
النقل النهرى للركاب على سبيل المثال (وللحديث عن نقل البضائع موضع آخر)، تصدت له مشروعات جيدة من قبل القطاع الخاص. التاكسى النهرى كان أحد تلك المشروعات التى ربما يكتب لها النجاح لو أن الراكب يعرف كيف يصل إلى مقصده بعد مغادرته للميناء التى يرسو بها التاكسى! ما هى طبيعة الشبكة التى تتصل بكفاءة لتسمح لذلك الراكب من كورنيش المعادى ــ مثلا ــ أن يصل إلى بيته فى باب اللوق، دون الحاجة إلى انتظار تاكسى برّى ينتظره طويلا، ويحمّله أجرة إضافية حاول جاهدا أن يوفّرها بركوبه لتاكسى النهر؟.
الإجابة تكمن فى منظومة النقل الذكى المتكامل والتى صارت ممكنة من خلال حلول إلكترونية تعمل بكفاءة فى دول لها ظروف مشابهة لظروف الشارع المصرى. والأمر هنا يتعدّى الرقمنة والميكنة إلى تحوّل رقمى كامل لمنظومة النقل، يحد من الأخطاء البشرية، ويرفع من كفاءة بدائل النقل وتنظيم المرور فى الشوارع وعلى الطرق السريعة.
حافلات النقل من المطارات bus shuttling التى تديرها منظومة رقمية متكاملة هى بداية جيدة لتقديم تجربة إيجابية للنقل الجماعى للوافدين. فمن غير المعقول أن تعتمد مصر على مجموعة من سيارات الأجرة والليموزين وعدد من تطبيقات الاقتصاد التشاركى لنقل الملايين الذين يستخدمون هذا المرفق الحيوى الخطير طوال العام، والذين نطمع فى زيادة أعدادهم خمسة أضعاف على الأقل فى المستقبل المنظور!. كذلك فإن تلك الحافلات متى التزمت بخطوط سير محددة فإنها تصلح للعمل بالكهرباء والغاز الطبيعى لتخفيض التكلفة والانبعاثات الكربونية وزيادة التحوّل الكهربائى Electrification المستهدف وطنيا بعدد من مشروعات التصنيع والتجميع المحلى.
ولأن السائح يبحث عن إقامة مريحة خالية من الإزعاج والفصال والخداع فإنه سوف يحجز مقدما، ومن خلال شركة الطيران أو شركة السياحة التى تعاقد معها، تذكرة واحدة صالحة للاستخدام من لحظة وصوله إلى المطار للانتقال إلى مراكز نقل محددة للربط بحافلات للنقل السياحى إلى عدد آخر من المقاصد السياحية والفنادق داخل وخارج القاهرة (أو أى مدينة بها مطار دولى مثل برج العرب)، وبالطبع فإن محطات المترو والمونوريل والقطارات هى مراكز مهمة للتوزيع داخل وبين المدن، وهناك حافلات مختلفة الأحجام تنقل الركاب بدورها من تلك المحطات إلى مقاصد أخرى.. وهكذا. فمدينة باريس على صغر مساحتها يزورها فى العام عشرات الملايين من السائحين. ولأن شبكة النقل داخل باريس، ومنها إلى المدن والدول المحيطة تتمتع بالتكامل والانتظام، فإن تجربة السياحة فى تلك المدينة مازالت من أفضل التجارب التى يعيشها أى سائح.
***
نجاح تلك المنظومة بالنسبة للسائحين ومستخدمى المطارات بصفة عامة تعد خطوة مهمة لتعميم التجربة على وسائل النقل العام. فمنظومة النقل تشبه لعبة المربعات التى تكتمل شيئا فشيئا، ولا توضع فى هيئة حل سحرى شامل صالح للتطبيق فى كل مكان وزمان. كما أن السهولة النسبية فى تطبيق منظومة النقل الذكى والتذكرة الموحدة على عملاء ينطلقون من نقطة واحدة يتم النشر منها dispatching spot تشجّع متخذ القرار على التوسّع فى تعميم التجربة على مرافق ووسائل نقل أكثر تعقيدا واضطرابا، حتى تصبح لدينا تغطية واسعة لحركة النقل فى مناطق متفرقة، يخلق الربط بينها شبكة واحدة عملاقة تسير مثل عقارب الساعة.
هناك نوايا حقيقية لإصلاح منظومة النقل فى مصر، وتحسين وسائل النقل العام التى تقضى على العشوائية وتقلل الزحام والاختناقات، وذلك بحسبة بسيطة لعدد السيارات الملاكى والأجرة والعجلات البخارية والتوكتوك التى من المتوقع إحلالها بحافلات وقطارات تشغل مساحة أصغر من الطرق والشوارع. لكن تلك النوايا يعوزها عامل تحفيز قوى وسريع، وليس أقوى من حلم وطنى مشروع بأن تسأل زائرا أجنبيا عن تجربته السياحية فى مصر، فيقول لك دون مجاملة زائفة إنها تجربة رائعة منظّمة خالية من المخاطر، وسوف ينصح كل معارفه بخوضها فى أقرب وقت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved