دولة المصريين (الغائبة)

سامح فوزي
سامح فوزي

آخر تحديث: السبت 10 سبتمبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

سبعة شهور مرت على تنحى الرئيس السابق حسنى مبارك، وأوضاع البلاد والعباد سيئة. ليس بفعل الثورة، التى أصبحنا نحملها مسئولية عقود من التردى السياسى والإدارى فى ظل النظام السابق، ولكن فى الأساس نتيجة ترهل المؤسسات العامة، وغياب القيادات الكفء، والأهم الإرادة السياسية فى إحداث تغيير حقيقى فى المجتمع.

 

أداء جهاز الدولة فى تدهور. تلال القمامة تحتل الشوارع، ومخالفات البناء وتآكل الأراضى الزراعية حدثت وتحدث، والتسيب المرورى فى أكبر الميادين، ناهيك عن الشوارع العادية، وتمدد الاقتصاد غير الرسمى، أو ما يمكن تسميته اقتصاد «بير السلم» فى صورة الباعة المتجولين الذين صادروا الشارع لحسابهم، وارتفاع منسوب العنف فى المجتمع، وضعف التواجد الأمنى، ووجود حالة من حالات «التبلد البيروقراطى»، والارتباك فى المؤسسات العامة يغلفه شعور بالقلق، ولاسيما فى ظل فقدان البوصلة التى جعلت من الشخصيات التى برعت فى تزييف وعى الجماهير فى النظام السابق هى الحاضرة فى المشهد الإعلامى، ناقدة للأوضاع الحالية، ومبررة للأخطاء السابقة، وبعضهم فجأة لبس مسوح الثوار.

 

يمثل إحساس المواطن أن الدولة غائبة الشكوى الدائمة. تظاهر الملايين، وسقط منهم مئات القتلى والضحايا من أجل بناء دولة قوية متحضرة، فإذا بهم يرون ردة حضارية تستبد بالمجتمع، ووجود «صوری» للدولة، وتمدد لكيانات سياسية ودينية، تقدم ما لم تعد الدولة تستطيع تقديمه من خدمات اجتماعية وصحية، وتوفر شبكة أمان اجتماعى لأعضائها وجمهورها. يصدق هذا على التيارات الإسلامية، كالإخوان المسلمين والسلفيين، وكذلك الكنيسة بالنسبة للمسيحيين. قد يكون فى ذلك مقدمة لتشكل نموذج جديد للدولة تتراجع فيه الدولة لصالح كيانات أصغر، وهى تجربة لم يعرفها التاريخ القديم أو الحديث عن الدولة المصرية، وعادة ما اقترنت فى المجتمعات التى عرفتها بانفراط العقد الاجتماعى بها.

 

●●●

 

دولة المؤسسات والقانون، دولة التنمية، دولة المواطن الحقيقية تغيب أو تُغيب، والنخبة السياسية والثقافية تناقش شكلها واسمها «مدنية» أم «علمانية» أم «إسلامية»... إلخ. هذه النقاشات، أكاد أجزم لا تهم الشارع أو المواطن العادى الذى يريد أن يشعر بالحضور الملموس، وليس الطيف الرمزى للدولة.

 

مؤسسات الدولة المصرية، التى ضرب الفساد والترهل الإدارى وتراجع مستوى القيادات أعماقها تحتاج إلى إعادة بناء. ويخطئ من يظن أن طريق التنمية والديمقراطية يمكن أن يحدث خارج الدولة، أو بمعزل عنها، والتجربة تثبت ذلك.

 

(1)

 

تعرضت «الدولة» إلى استهداف منظم فى ثمانينيات القرن العشرين من مؤسسات دولية، وباحثين رأوا فيها كل بلاء: سلطوية، فساد، إهدار الموارد العامة، إلخ. الجانب الأكبر من هذا الاستهداف جاء مرافقا لسياسات التكيف الهيكلى التى طبقت فى العديد من دول العالم النامى، ومبررا لإعطاء دور رئيسى للقطاع الخاص فى المجال الاقتصادى. لم يمض سوى عقد من الزمن حتى تعالت الأصوات، والتى جاء بعضها من قلب المؤسسات الاقتصادية الدولية مطالبة برد الاعتبار للدولة. وظهر فى الأفق مفهوم «الدولة التنموية»، وهو يعنى أن تقوم الدولة بتحقيق التنمية فى إطار قيم المساءلة، والشفافية، وحكم القانون، واحترام حقوق الإنسان، أى تجمع الدولة بين التنمية والديمقراطية فى آن واحد، وهو ما يختلف عن التجارب السلطوية فى التنمية التى جعلت من جهاز الدولة فاعلا فى السياسات العامة، ولكنه قمعى فى التعامل مع المواطنين. وقد جاء رد الاعتبار للدولة بعد أن تبين أن غيابها أدى إلى التفسخ، والجريمة المنظمة، واتساع رقعة الفقر. ولم يعد مستساغا قبول الطعن فى الدولة، لمجرد أنها الدولة، فى الوقت الذى حققت فيه كوريا الجنوبية تجربة تنموية مهمة فى ظل دولة قوية، وأظهرت الدول الإسكندينافية أنها مؤثرة فى حياة المواطنين نظرا لكونها الأقل فسادا، والأكثر اهتماما وصونا لحقوق الإنسان، والأوفر احتراما وتوقيرا لحكم القانون. ولا نستغرب أن نجد «فرنسيس فوكوياما» فى كتاب له ــ رقيق الحجم صدر عام 2004 ــ يطالب بمؤسسات دولة قوية، وثقافة عامة تدفع المجتمع للأمام، وقيادات تبث قيم العمل والانجاز والمسئولية فى أجهزة الدولة.

 

(2)

 

الدولة القوية ضرورة لبناء التنمية والديمقراطية. تجربة «كارلا» فى الهند تكشف كيف أن المجتمعات التعاونية التى أنشأتها الدولة اقترنت بتوزيع جديد للسلع والخدمات، وبثت روح العمل الجماعى، وساعدت على إدماج قطاعات واسعة من الفقراء، ووفرت لهم إمكانيات للحراك الاجتماعى لأعلى. وكشفت تجربة الرى فى «تايوان» أن التعاون والشراكة بين المزارعين والحكومة يؤديان إلى توزيع جيد للمياه، ويساعدان المواطنين على تحمل المسئولية تجاه المجتمع. وأدت تجربة مشاركة المواطنين فى وضع الميزانية العامة، بما يتطلبه من تحديد للاحتياجات وتوجيه الإنفاق لها إلى توسيع نطاق الشفافية والمساءلة واللا مركزية فى البرازيل وجنوب أفريقيا. وساعدت تجربة الأندية الاجتماعية التى تدعمها الدولة فى «الدنمارك» فى تحريك الاندماج، والمشاركة المحلية، ووفرت للمواطنين إمكانية المشاركة فى توفير الخدمات الاجتماعية على مستوى الأحياء.

 

الدولة ليست مكروهة دائما، أو غير مرغوب فيها، ولكنها متى أحسنت الأداء، وخضعت للقانون والمساءلة، وشاركت المواطنين احتياجاتهم وأحلامهم، ووضعت يديها فى يد المنظمات المجتمعية لخدمة المجتمع يكون العائد ملموسا، وهو ارتفاع ثقة المواطن فى الدولة، وازدياد تمسكه بها، والشعور بالولاء تجاهها.

 

(3)

 

الدولة هى قاطرة التنمية والتحول الديمقراطى. هذا ما عرفته دول أخرى تقدمت من آسيا إلى أوروبا إلى أمريكا اللاتينية. المسألة ليست فقط فى توافر قدرات مالية، بقدر ما هى توافر إرادة سياسية، وقيادات قادرة على بث روح العمل، والنزاهة، والخدمة العامة. لم تبن اليابان فى أعقاب الحرب العالمية بالمشروعات العملاقة فقط، ولكن بوجود قيادات فاعلة فى جميع مؤسسات الدولة.

 

فى مصر تحتاج التنمية والديمقراطية إلى دولة قوية. ولا يعنى ذلك أن تصبح دولة متجبرة، تضرب متظاهرين أو مشجعى كرة القدم أو تفرض قيودا على الحرية الإعلامية، ولكن أن تكون دولة قانونية تتغلغل فى حياة المصريين لتنظيم أحوالهم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم بالكم والكيف المطلوبين، وتشعرهم بالأمان على أنفسهم وممتلكاتهم.

 

من هنا لا يصح السكوت على تدهور مؤسسات الدولة، وتراجع مستوى الخدمات العامة، وغياب الخيال السياسى فى طرح المبادرات التى تدشن لأسس نظام جديد يقوم على مبادئ الحكم الرشيد. القضية ليست فقط ميزانية، ونقص الموارد، ولكن فى الأساس استخدام لمخزون الخبرة البيروقراطية فى التصدى لمشكلات المجتمع، وإيجاد قنوات جديدة للشراكة مع المواطن، وتعبئة القدرات المتوافرة من أجل إعادة تنظيم الحياة. المواطن ليس بديلا عن الدولة، ولا يصح أن نترك للناس حل مشكلاتهم، لأنهم يعيشون فى دولة، ويريدونها أن تكون فاعلة، حاضرة، مؤثرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved