حكايتان مع الأخ العقيد

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: السبت 10 سبتمبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

لى قصتان مع العقيد معمر القذافى. واحدة نشرت على الملأ وتابعها عدة ملايين من البشر، والثانية وئدت فى المهد ولم يسمع بها سوى شخص واحد فقط. وقد خطر لى أن أروى القصتين بعدما قرأت ما نشرته جريدة «الشروق» فى عدد 2 سبتمبر بخصوص مدائح نفر من المثقفين المصريين لمواهب العقيد حين كان يتربع على عرش ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب وقدر ليبيا المحتوم. وإذا كان الكلام الذى أعادت «الشروق» نشره يبعث الآن على الخجل والضحك بقدر ما أنه يفضح أولئك المثقفين ويكشف ضعفهم وتهافتهم أمام ذهب العقيد وسلطانه، إلا أن الذين شاركوا فى الفضيحة ينتمون إلى عدة أقطار عربية، وليس من مصر وحدها. إذ منهم سوريون ولبنانيون وجزائريون أيضا. وكلهم كانوا ــ وبعضهم لا يزال ــ من نجوم الثقافة والأدب فى العالم العربى. وقد جمعت شهاداتهم فى كتاب ضخم فى نحو 900 صفحة أصدرته قبل ثلاث سنوات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام بليبيا.

 

خلاصة القصة الأولى كالتالى: فى آخر أيام شهر ديسمبر من عام ٢٠٠٤، وفى مناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة، دعتنى قناة الجزيرة مع اثنين من المثقفين إلى أمسية قيل لنا إن العقيد القذافى سيكون ضيفها. واقترح علينا أن نجرى حوارا معه فى تلك الليلة حول ما جرى خلال العام وتوقعات العام الجديد، ولما وجدت رفيقىَّ فى اللقاء الذى يبث على الهواء مباشرة يتحدثان معه بلغة دبلوماسية حذرة، وكأنهما مبعوثان رسميان، فقد قررت أن أوجه إليه سؤالا صريحا لا حذر فيه، وقلت: يا سيادة العقيد، أنت تصالحت مع الأوروبيين والأمريكيين هذا العام (كنت أقصد تسوية تعويضات حادث لوكيربى وتسليم الوثائق والأجهزة ذات الصلة بالمشروع النووى إلى المخابرات المركزية الأمريكية)، فمتى تتصالح مع الشعب الليبى؟

فوجئ العقيد بالسؤال، كما فوجئ مقدم الحلقة الزميل على الظفيرى، الذى أشار إلىَّ بيده من تحت الطاولة لكى أهدئ الجو. تظاهر القذافى بالثبات ورد قائلا: يا بنى أنت لم تقرأ الكتاب الأخضر، ولو استوعبته لوجدت أن المجتمع الليبى حقق نقلة كبيرة فى حياته بعد ثورة الفاتح. وبعدما أفهمنى أنه يتابع بعض ما اكتبه، ثم واصل حديثه عن إنجازاته وظل يخاطبنى بين الحين والآخر قائلا: يا بنى. ولا أذكر لماذا تطرق إلى موضوع العروبة التى انتقدها واعتبرها دعوة عنصرية، ربما لكى يبرر تحولاته الأفريقية، وفى نهاية كلامه نصحنى بأن أقرأ الكتاب الأخضر وأن أزور ليبيا لكى أرى التحولات التى حدثت فيها فى ظل الثورة.

حين جاء دورى فى الرد، وجدت على الظفيرى يتوسل إلى بعينيه وبإشارة يده أن أمرر الحلقة بسلام، ولكننى طمأنته بسرعة وعبرت للقذافى عن شكرى له على مخاطبتى باعتبارى ابنا له. وأضفت «أننى أدرك أنك أكبر منى مقاما، لكننى أكبر منك سنا»، ثم قلت إننى قرأت الكتاب الأخضر ثلاث مرات ولم أخرج منه بشىء مقنع، وإننى زرت ليبيا ووجدت أن أحلام الليبيين معلقة على اللافتات ولكن لا شىء منها تحقق على الأرض.

 

بعد ذلك صححت له معلوماته عن العروبة قائلا: إن العروبة ليست عرقا ولا عصبية، ولكنها تقوم على انتماء ثقافى أرقى يرتبط بالتمكن من الفصحى، حيث يعدُّ كل من نطق العربية عربيا ينتمى إلى الأمة. واستشهدت بالحديث النبوى الذى يقول ما معناه ليس العربية منكم بأب وأم، ولكنه اللسان. ثم ذكرته بأن أئمة اللغة وكبار النحاة وواضعى القواميس كان أغلبهم ينتمون إلى أصول أعجمية وليست عربية.

 

لم يرد الأخ العقيد وتطرق إلى أمور أخرى، لكننى كنت قد قلت ما عندى على شاشة الجزيرة وأمام الملأ، وكانت مشكلتى بعد ذلك أننى لم أنم طوال الليل بسبب اتصالات التشجيع الهاتفية التى تلقيتها من المشاهدين، وأغلبهم من الليبيين المشتتين فى أرجاء الكرة الأرضية. وعلمت لاحقا من السفير المصرى فى طرابلس آنذاك محمد رفاعى أن أحد موظفى السفارة كانت فى اسمه كلمة «هويدى» خشى أن يتعرض للأذى بسبب ما قلت، فاختفى فى بيته ولم يخرج منه لمدة أسبوع بعد بث الحلقة.

 

قصتى الثانية كانت قصيرة وخلاصتها أن القذافى عنَّ له أن يؤلف مجموعة قصصية صدرت فى كتاب بعنوان «القرية القرية.. الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء»، ولا أعرف الملابسات التى جعلت رئيس هيئة الكتاب آنذاك الدكتور سمير سرحان أن يخصص إحدى ندوات معرض الكتاب لمناقشة المجموعة من القصص. وبطبيعة الحال فإن حشدا من الإعلاميين والمثقفين حضروا الندوة وبعضهم اشترك فيها. وحينذاك سألنى صحفى ليبى من العاملين فى صحيفة «الزحف الأخضر» على ما أذكر، عن رأيى فى قصص الأخ العقيد، فقررت أن اتخابث عليه وقلت إن المجموعة المنشورة كشفت عن الموهبة الأدبية الفذة للعقيد، التى حجبها انشغاله بالعمل السياسى طوال الوقت، لذلك فإننى أتمنى عليه ألا يضحى بها وأن يفسح المجال لاستثمار إبداعات موهبته، بأن يتفرغ للأدب ولا يضيع وقته فى أعباء السياسة ومشغولياتها التى تقتل تلك الموهبة ورجوته أن ينقل هذه الرغبة على لسانى فى الجريدة. سجل صاحبنا الكلام بحسن نية وانصرف. ولم يظهر للحوار، أثر فى الجريدة بطبيعة الحال، كما أننى لا أعرف ما الذى جرى له.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved