منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسى وما تلاه من مواجهات عنيفة بين الدولة وأنصار جماعة الإخوان والتى وصلت ذروتها يوم فض اعتصامات ميدانى «رابعة العدوية» و«النهضة»، وقد أصبح وصم أى مواطن بأنه إخوانى مدعاة لتعرضه لدرجات متباينة من النبذ المجتمعى والمساءلة القانونية. ثم بعد إعلان جماعة الإخوان إرهابية، فقد أصبح الانضمام إلى الجماعة محظور قانونيا ويرتب على صاحبه تبعات قانونية خطيرة أبسطها أن يتم حبسه واتهامه بالإرهاب وقد يصل الأمر فى بعض الأحيان إلى الحكم بالإعدام ـ حتى لو لم ينفذ.
ولأن التهمة جد خطيرة، وفى جو من الهيستريا والضغط السياسى، تم استخدام هذا الوصم لتصفية الكثير من الحسابات السياسية فى المجتمع، فطغى الوصم على العلاقات بين الزملاء والجيران والأصدقاء وتحول إلى عملية عشوائية من التجريس فى مقابل موجات متتالية من «التوبة» السياسية للتأكيد على عدم الانضمام إلى الجماعة.
بعد عام واحد من عزل الرئيس الأسبق مرسى، وبعد جدل حول مدى تسييس الوضع القانونى لجماعة الإخوان، فإن شخصيات عامة محسوبة على الجماعة قد أعلنت عبر وسائل التواصل الاجتماعى وعبر الإعلام غير المصرى عن اللجوء الرسمى للعنف تحت دعوى الدفاع عن النفس، وفى مرحلة لاحقة صدر «بيان» الكنانة للتأصيل شرعيا للعنف السياسى فى مصر ضد الدولة ومؤسساتها. فور صدور بيان الكنانة فى مايو ٢٠١٥، فقد انتهى رسميا الجدل حول لجوء الجماعة للعنف وما إذا كان مجرد دعوة من بعض أفرادها أو أنه بالفعل قرار استراتيجى للجماعة، فالأخيرة تتبنى العنف لا ريب. ولكن ورغم كل ذلك، لم ينته جدل أهم وهو عن الكيفية التى يمكن بها التيقن من أن فلانا إخوانى بالفعل أم لا وماذا يعنى ذلك؟!
***
الجدلية الأولى دارت حول ما إذا كان ينبغى التفرقة بين الانتماء إلى الجماعة وبين اللجوء إلى العنف، بعبارة أخرى، هل الإخوانى غير العنيف تظل عليه مساءلة قانونية أم لا؟ حينما توجهت بهذا السؤال إلى الأصدقاء والزملاء العاملين فى مجال القانون وبعضهم جزء من منظومة العدالة، فإنهم قد أجمعوا جميعا أن مجرد الانتماء إلى الجماعة، يرتب مساءلة قانونية ويعد جريمة وفقا للقانون لأن الجماعة نفسها تم تصنيفها إرهابية بغض النظر عن مواقف أعضائها الفردية من قضية العنف والإرهاب.
لكن لفت الأصدقاء المتخصصون نظرى للجدلية الثانية، وهى التفرقة بين الانتماء التنظيمى للجماعة وبين الانتماء الفكرى، بعبارة أخرى فإن الجدل هنا يدور حول ما إذا كان المتهم المقصود منتميا للتنظيم، فهو أحد كوادره أو عضو فيه أو من ناشطيه أم أنه غير تنظيمى ولكنه يشاطر الجماعة أيديولوجيتها السياسية؟ البعض يرى أن الانتماء بكل صوره فكريا كان أو تنظيميا مجرما، بينما يرى البعض الآخر أن الانتماء التنظيمى فقط دون الفكرى هو ما يرتب المساءلة القانونية!
هنا ننتقل للجدلية الثالثة، وهى المتعلقة بماهية هذا الانتماء الفكرى بغض النظر عن كونه يرتب مساءلة قانونية أم لا، أى إن الجدل هنا هل هذا الانتماء الفكرى يدعم اللجوء للعنف والإرهاب ضد مؤسسات الدولة ومواطنيها لتحقيق أهداف سياسية، أم أنه فكر غير عنيف؟ فهل مثلا الإيمان المجرد بفكرة «الخلافة الإسلامية» أو «أستاذية العالم» أو « الحاكمية السياسية» أو غيرها من الأفكار المؤسسة للجماعة، يرتب هذه المساءلة القانونية أم أن هذه المساءلة تشترط أن تقترن هذه الأفكار بالإيمان بالعنف أو تدعيمه من أجل تحقيقها؟!
***
هنا ننتقل إلى الجدلية الرابعة وهى كاشفة أكثر عن تعقد الموقف، ماذا لو أن فلانا سلفى أو إسلامى غير تنظيمى، ولكنه يشارك بعض هذه الأفكار؟ أى هل المشكلة فى الفكر أم فى انتماء صاحبه أو صاحبته، فإن كان إخوانيا يعاقب وإن غير غير ذلك يترك؟
جدلية خامسة تبدو بسيطة ولكنها فى نظرى مهمة وأكثر تعقيدا من كل ما سبق، كيف نقر من الأصل أن فلانا منتمى لجماعة الإخوان فكرا أو تنظيما؟ ما هى الأدوات التى نستخدمها للاستدلال والتوصل إلى تهمة الانتماء إلى الإخوان؟ خطورة هذه الجدلية أنها تبدو غير ملحة ولم أرها على أجندة السياسيين، الإعلاميين، أو المفكرين وقادة الرأى، ربما إيثارا للسلامة أو شراء لراحة البال والبعد عن الضوضاء وربما حتى للهروب من وصم مماثل، ورغم ذلك فهى جدلية فى منتهى الأهمية وإثارتها فى هذا التوقيت وخصوصا على خلفية قرارات لجنة «حصر أموال الإخوان» بالتحفظ وإدارة أموال بعض الشركات والمنصات الإعلامية والثقافية بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان، وهو الاتهام الذى نفاه أصحاب هذه الشركات والمنصات!
طبيعى أن تتهم، ومنطقى أن ينفوا، لكن السؤال الأهم كيف يمكن التأكد من هذا الانتماء من عدمه؟! المنطق السائد بل والمعمول به أن المتهم عليه أن يتظلم وفى تظلمه عليه أن يثبت أنه بالفعل غير منتمى للجماعة، وقد لجأ البعض فعلا للتظلم ولكن ما توصلت إليه أن معظم التظلمات قد رفضت أو أن مصيرها يبقى مجهولا، وفى تقديرى أن المنطق يتطلب العكس تماما، أى إن «البينة على من ادعى»، فعلى اللجنة أن تقدم بالفعل ما يثبت أن هذه الشركات والكيانات بالفعل جزء من الكيان الإخوانى أو أن أموالها قد تم استخدامها بالفعل فى دعم أى أعمال عنف أو إرهاب ضد الدولة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن تكون هذه الأدلة شفافة ومعلنة للرأى العام.
***
فى هذا السياق هناك ثلاث حالات جلية وكافية لاتهام صاحبها بالانتماء للجماعة:
فإما أن يعترف هو نفسه بهذا الانتماء صراحة، أو أن يثبت أنه بالفعل جزء من الكيان التنظيمى للجماعة، أو أن يكون هو بشخصه أو عن طريق آخرين قد دعم أو مول أى عمليات عنف أو إرهاب سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، أو أن تكون هناك حالة رابعة تراها اللجنة وتوضحها للرأى العام.
الشفافية فى هذا الموضوع وفى هذا التوقيت بالذات فى منتهى الأهمية لأنها ستنفى أى شبهة تسييس للقضية، وكذلك فهى مهمة لدعم الاقتصاد وتشجيع الاستثمار فى ظل ظروف اقتصادية صعبة بات يعلمها الجميع، كما أنها مهمة لدعم الحركة الفكرية والثقافية المصرية وإبعادها عن ترهات السياسة والاقتصاد وهو ما يمثل فى النهاية دعما للمجتمع المدنى أمام العنف والإرهاب ويدعم عملية الاستقرار السياسى.
عانت مصر كثيرا بعد ٢٠١٣ من عمليات الابتزاز السياسى التى استخدمها بعض السياسيين عن طريق اللعب بكارت الاتهام بالانضمام إلى الإخوان وما ارتبط به من مفردات مثل «الخلايا النائمة» لإبعاد أو تهميش ما لا تروق أفكاره أو أجندته السياسية للنظام أو للشبكات المنتمية إليه، أما الآن وبعد ٤ سنوات من إزاحة حكم الإخوان وبعد أن مرت مدة أظنها كافية للتفرقة بين العنف والإرهاب وبين المعارضة، بين محاربة الدولة وبين معارضة النظام السياسى القائم على أمرها، بين المحبة الحقيقية للوطن وبين الافتعال فى حب الوطن تحقيقا للمصالح الشخصية.
وقت الظن والخوف والهيستريا يجب أن يزول، فقد كلفنا الكثير ولا أعتقد أنه لصالح مصر أن يستمر بأى حال من الأحوال، ومن هنا حان الوقت للتروى قبل اتخاذ القرار والشفافية حال اتخاذه.