اللوتس الأزرق

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 9 سبتمبر 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

وكأن شيئا غامضا يشدنى إلى الزهرة التى تطفو على سطح الماء دون أن تبتل. تلح على رغبة الذهاب إلى حديقة الأورمان لشراء بذور اللوتس، بعدما سمعت أنها تباع هناك، أو التوجه إلى الجمعية التى قرأت أنها تقوم بزراعته فى المعادى. أقارن بين حضارات اللوتس فى مصر والصين والهند، والحضارات الشرقية القديمة عموما، ما كانت عليه وما آلت إليه، وذلك منذ زيارتى للصين فى شهر إبريل الماضى. قيل لى إن قمم جبل جيوهوا، أحد معاقل البوذية بإقليم آنهوى، شرق الصين، تشبه فى تكوينها زهرة اللوتس المقدسة، وهو جبل يعج بالمعابد والآلهة والنساك والسائحين. وقد كانت بالفعل مقدسة لدى الفراعنة للأسباب نفسها التى جعل منها البوذيين والهندوس رمزًا للطهارة والنقاء والكمال والديمومة وأحيانًا البعث، فجذورها تنمو فى الطين وتتغذى عليه، تضرب فى المياه الداكنة، لكن زهرتها تتفتح فى الهواء الطلق، ويفوح منها العطر الذى ينعش القلب، وتطفو بمستوى أعلى من سطح الماء، دون أن تبتل أوراقها المغطاة بطبقة شمعية ناعمة تمنع تجمع المياه فوقها. لذا اعتبرت مثالا للرقى والسمو والقدرة على خروج الجمال من الوحل.
***
بعد زيارة جبل جيوهوا توجهنا إلى حديقة «دايوان» الثقافية أو حديقة بوذا، حيث يقف تمثاله الذهبى راسخا، وتطفو من حوله أزهار اللوتس الوردية اللون، أتوقف مليا عندها وأتساءل لماذا اختفى كل هذا الجمال من عندنا، فلم نعد نرى اللوتس سوى على أعمدة وجدران المعابد، حين تقدمه إحدى الأميرات كقربان أو يزين مركبا كتلك التى كانت تصاحب كيلوبترا؟ فأساطير نشأة الكون لدى الفراعنة تحدثت عن أن أول ما ظهر من محيط نون الأزلى (أو ماء الأزل) كانت زهرة اللوتس الزرقاء، أى أنها بالنسبة لهم كانت تسبح فوق ماء الأزل. لماذا لم نصنع منها الكريمات ومنتجات التجميل كما فعل المسوقون الصينيون، مشددين على استخدامها لإزالة التجاعيد وإذابة الدهون؟ ألم يستعمل المصريون القدماء أجزاءها المختلفة فى التجميل وعلاج الأرق والتوتر ومشكلات التنفس؟
***
بعد مضى شهرين من تاريخ الزيارة أخذت زهرة اللوتس تطاردنى مرة أخرى. كتب الأستاذ محمد سلماوى مقالا، بجريدة الأهرام، حول المتحف الزراعى بالدقى ووجود نية لدى بعض الجهات المعنية لاستغلال الحديقة والمساحة المحيطة به تجاريا (نحو 30 فدانا)، ما يعنى بالضرورة اختفاء جزء أصيل من هذا المتحف الذى أقيم فى ثلاثينيات القرن الماضى، فى سراى أهدتها الأميرة فاطمة إسماعيل، بغرض التوثيق لذاكرة مصر الزراعية، وضمت الحديقة أنواعا متعددة من الأشجار النادرة، إضافة إلى حديقتين على الطراز الفرعونى، فعلى ما أذكر كانت أول مرة أرى زهرة اللوتس، رمز الوجه القبلى فى مصر القديمة، والبردى، رمز الوجه البحرى، فى محيط هذا المتحف. وأيضا خلال هذه الفترة عرض فيلم «الأصليين» بدور السينما، فجاء ذكر سر اللوتس الأزرق على لسان بطلته، عالمة المصريات المتمردة ثريا جلال (الممثلة منة شلبى) التى كانت تعد محاضرات وأبحاثا عن اللوتس الأزرق وكيف يمكن أن يطلق عنان الخيال ويساعد على استعادة الوعى الجمعى. 
***
ألحت على الرغبة فى التبحر فى عالم اللوتس مجددا لاكتشف الفارق بين اللوتس الأزرق التى تتفتح أزهارها عند الفجر وتقفل عند الغسق طوال خمسة أيام، وفى اليوم الخامس تسقط بتلات الزهرة ليظهر مكانها قرنة خضراء تنحنى نحو الماء وتلقى بذورها لتبدأ دورة حياة جديدة، وبين زنابق اللوتس البيضاء التى تتفتح ليلا وتغلق تويجاتها قبل الظهر، ثم تعاود تفتحها عند الغسق.. دورة حياة كاملة ألهمت المصريين القدماء ليجعلوها رمزا لعملية الخلق، حتى أنهم مثلما البوذيين والهندوس كانوا دوما يصورون أحد الآلهة أيا كان اسمه وهو يخرج من قلب زهرة اللوتس. كل تلك المكانة لم تشفع لهذه الزهرة ولم تحمها من الاندثار ولم تلفت نظر إلى جمالها وفوائدها، بخلاف البلاد الأخرى، فنحن نتفنن فى إفساد ما ورثناه وتدميره، ولا نهتم بما حبتنا به الطبيعة وما وهبنا إياه التاريخ. حتى حين صممنا برج القاهرة ومطعمه الدوار على شكل زهرة لوتس أهملناه، دون سبب واضح، سوى أننا نجيد دفن الجمال وتخريبه. هذا هو أحد الفروق بيننا وبين حضارات اللوتس الأخرى التى تعطرت بعطره. أما نحن نهمل وننسى ونطمس.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved