دورةٌ للتهدئة.. وأخرى للحرب: المسار «اللولبى» للإمبريالية الأمريكية

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الأحد 9 سبتمبر 2018 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

تعتبر نظرية «الاستعمار» Colonialism من بين أهم النظريات المفسرة للعلاقات الدولية فى العصر الحديث، حتى إن لم تكن «نظرية» بالمعنى الفلسفى الدقيق، وإنما بالأحرى «نظرة» توجيهية أو اتجاه نظرى نافذ. ومنها نبعت نظريات متعددة، ربما أشهرها نظرية «الإمبريالية» التى بلورها لينين فى كتابه الشهير (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية). ولمّا كان لينين قد استند فى بلورة نظريته عن الإمبريالية إلى مفهوم «رأس المال المالى» وخاصة عند «هلفردنج» ومفهوم «الإمبريالية» عند «هوبسون»، فقد حق لآخرين لاحقين، أن يتتبعوا تطور الرأسمالية ليظهر التوجه نحو «ما بعد الاستعمار»، ومفهوم «المركز والمحيط»، وكذلك «نظرية التبعية» وغيرها.

ويمكن التعبير عن التوجه الأساسى «للنظرية الأم» حول الاستعمار، فى أن تفاوت مستويات التطور داخل المنظومة العالمية الرأسمالية يولّد نزوعا متأصلا إلى الهيمنة أو السيطرة من قبل القوى الأكثر تقدما تجاه القوى والبلدان الأدنى تطورا من حيث مستوى التقدم الاقتصادى والتكنولوجى، ومن حيث طبيعة هياكل الإنتاج. تلك الهيمنة تختلف أشكالها، ولكنها عموما تتمثل فى السيطرة التامة لبعض الدول الرأسمالية المتقدمة على مناطق وبلدان اعتبرت من وجهة نظر المقارنة التاريخية متأخرة فمتخلفة ثم (نامية)، وتقع فى القارات الثلاث لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وقد تغيرت مواقع الدول الممارسة للاستعمار والسياسة الاستعمارية عبر العصر الحديث. وكان أن بزغ نجم الولايات المتحدة الأمريكية رويدا خلال القرن العشرين لتتولى، فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945) مهمة قيادة المنظومة العالمية للرأسمالية باتجاه الهيمنة. وفى المقابل كان هناك الاتحاد السوفييتى، الذى يستحق تتبع نهجه فى العمل الداخلى والتعامل الدولى معالجة خاصة فى مقام آخر.
ويلاحظ فيما يتعلق بنظام الهيمنة الأمريكى، أو الإمبريالية فى نسختها الأمريكية، أن السياسة «الاستعمارية» الأمريكية، ينطبق عليها، بمعنى معين، مفهوم الدورات التعاقبية، يجمع بينها استخدام القوة فى العلاقات الدولية كسبيل رئيسى لتحقيق أهداف السياسة الخارجية. وبيان ذلك أنه تكون هناك دورة تستخدم فيها القوة المسلحة (بدرجة أو أخرى) على أوسع نطاق ممكن، فيما يعرف بالحرب، ضمن سياق «الحروب المحدودة» خلال حقبة «الحرب الباردة» 1945ــ1991.

***

تتلو ذلك، دورة أخرى للتهدئة، مختلفة عما سبق، وتستخدم فيها الأشكال المتنوعة للقوة تطبيقا لنظرية التهديد والردع بما فى ذلك «القوة المجسدة»، وربما «المسلحة» فى نطاقات ضيقة نسبيا، فيما يعرف بالتدخل العسكرى المحدود. وغالبا ما كانت «دورة التهدئة» من نصيب «الحزب الديمقراطى»، و «دورة الحرب» من نصيب «الحزب الجمهورى».
فى الدورة الأولى ذات الاستخدام الموسع للقوة المسلحة، يكون شن الحرب – بدون إعلان رسمى غالبا ــ الخيار الأبرز؛ حرب يسقط فيها الضحايا إلى حدود قد تصل فيها الأعداد المعدودة ليس إلى الآحاد أو العشرات المفردة فقط، أو المئات، ولكن إلى الآلاف وربما عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، بين قتيل وجريح، فى هذه القارة أو تلك من بين القارات الثلاث (إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية).
وأما فى الدورة الثانية ــ «دورة التهدئة النسبية» ــ فتكون أشكال التدخل المتنوعة أكثر ظهورا، دون استبعاد وقوع تدخلات عسكرية انتقائية، أو ضربات موجعة محدودة المدى الزمنى والنطاق المكانى، ولكن بغير انخراط فى «حرب» بالمعنى التقنى الشائع، سواء بمعيار اتساع الرقعة الميدانية للقتال، أم الاستمرارية الزمنية، وكثافة العمليات، وأعداد الضحايا المحتملين، بين مقتول ومصاب.
فكرة «الدورات فى السياسة الأمريكية هذه، كان قد تنبّه إليها الدكتور فؤاد زكريا منذ مدة، وقد وجدنا فيها فائدة تحليلية ثمينة، حيث تقترب من الواقع إلى حد كبير».
تطبيقا لنظرية الدورات فى المسار اللولبى للإمبريالية الأمريكية، نجد مثلا، بالتطبيق على الواقع الراهن، أنه كان لابد من أن يتلو مسار التهدئة فى ظل إدارة «أوباما» مسارا للتصعيد بالعنف حتى حافة الهاوية نحو (حروب) متعددة الأشكال. وهذه هى المهمة التى وقعت على عاتق دونالد ترامب الذى تولى الرئاسة اعتبارا من 20 يناير 2017 ليمارس تطبيق «المهمة المقدسة»: أمريكا اولا (وفى الحقيقة: أمريكا البيضاء أولا) على حد تعبير البعض. وكان لابد لدونالد ترامب من تدشين عصر العنف ــ غير المجسد عسكريا بالضرورة ــ من خلال إسقاط رموز التهدئة (الأوبامية) وخاصة اتفاقية باريس للمناخ، والصفقة النووية الإيرانية، واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى. ثم كان التهيؤ لخوض نوع من «الحرب التجارية» مع الحلفاء والشركاء، خاصة الصين وأوروبا وروسيا وكل من تقع عليه عيناه من وجهة نظر التهديد المحتمل لمكانة الولايات المتحدة فى مقدمة الصفوف أو أعلاها. وكذا، العمل على إعادة التفاوض على الاتفاقات المنظمة للتجارة الدولية (منظمة التجارة العالمية) والتجارة التفضيلية لأمريكا مع الجوار الأمريكي ــ الشمالي( اتفاق «نافتا» مع كندا والمكسيك).
يجىء دونالد ترامب محمولا على أعناق نزعة ذات طابع عنصرى (أبيض) يقال لها (شعبوية) موجهة نحو الخارج، لاستبدال سياسة التعاون المتكافئ نسبيا مع الشركاء والحلفاء، ولو من خلال التنازلات المتبادلة، بسياسة ذات طابع هجومى مستهدفة غايات استراتيجية، أبرزها تثبيت المكانة الأمريكية، حيث هى بالذات فى الأمام وإلى الأعلى، وتحقيق أكبر منافع اقتصادية ممكنة. ويتبع «ترامب» فى ذلك، مسار الخط التفاوضى المستحيل: أى «المباراة الصِّفرية»: كسب صافٍ له، وصِفْر للآخرين؛ وعلى الأقل: الحد الجذرى من نزيف الخسائر التى كانت تتحملها أمريكا راضية عشرات السنين مقابل إنفاد سياسات الهيمنة. وكانت تتحقق فوائد اقتصادية جمة من وراء إنفاذ سياسات الهيمنة تلك، بوسائل عدة من بينها تسهيل فرض هيمنة الدولار على عرش العملات العالمية، كأداة لتسوية المبادلات الدولية ووسيط للمعاملات وكمخزن للقيمة، فى نوع من «الإمبريالية النقدية» وفق تعبير البعض. يضاف إليه، جنى الأرباح الاحتكارية القصوى للشركات الأمريكية عابرة الجنسيات من تسويق التكنولوجيا المتقدمة؛ بالإضافة إلى المساعدة على فرض أسعار «غير عادلة» للنفط والمواد الأولية ارتكازا إلى الوجود العسكرى عند منابع النفط وفى مناطق النزاعات.. ويُذكر كذلك، تحول الولايات المتحدة إلى أكبر موئل للاستثمار المالى فى مشتريات سندات وأذون الخزانة فى العالم، وذلك من طرف الدول ذات الفوائض المالية العظيمة، وخاصة بلدان الخليج + الصين، وبالتالى صيروة أمريكا كأكبر دولة مدينة فى العالم، بالإضافة إلى كون بنوكها العملاقة أكبر وسائط التدفقات المالية الدولية، وأهم معابر رءوس الأموال الهائمة والمضاربة ــ بتريليونات الدولارات ــ على امتداد المعمورة.
وفى الجوهر خلف هذا كله، كما أشرنا، إدراك شرائح النخبة الأمريكية الموالية لسياسات دونالد ترامب لخطورة تسارع مسيرة اضمحلال القوة الأمريكية عبر الزمن، وبالتالى تدهور واقع الهيمنة على الصعيد العالمى. ولا شك أن استشعار هذه الحقيقة التاريخية بحساسية زائدة، يدفع تلك الشرائح (الترامبية)، إن صح التعبير، إلى العمل بكل الوسائل المتاحة من أجل منع التدهور، أو تأجيله لأطول فترة ممكنة على الأقل؛ ولن يكون ذلك بغير اتباع الحكمة التقليدية (الهجوم خير وسائل الدفاع). من هنا ينبع أصل محاولات الحرب التجارية، وحروب أخرى (غير ساخنة بالضرورة) مثل ما يظهر من معاودة التسلح الفضائى. وغير بعيد من ذلك، السعى إلى تشديد الاعتماد على التوابع الموثوقين من أمثال إسرائيل وتايوان. ويدخل فى هذا أيضا، العمل من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وبالتالى تفرغ إسرائيل لـ (المهمة المقدسة) فى نطاقها الإقليمى، أى المساعدة على تثبيت المكانة الأمريكية، أو تأجيل تدهورها، ضمن علاقة تحالفية فريدة بين «الإمبريالية الكبرى» (أمريكا) و «الإمبريالية الصغرى» (إسرائيل).

دولة أم دولتان..؟
قد نزعم فى ضوء تحليلنا السابق أن فى أمريكا دولة واحدة لا دولتان، بمعنى أن النظام السياسى الأمريكى يحمل فى طياته شريحتين متواكبتين، غير متناقضتين جوهريا، من النخبة السياسية المسيطرة. ويرى البعض، على عكس ذلك، أنه ثمة دولة مستترة للأمن القومى أو «حكومة خفية»، ودولة أخرى طافية على السطح أو «حكومة ظاهرة»، وأن الدولة الموازية المتخفية قد تتطابق حينا مع نظام الحكم أو «الإدارة»، ولو بصفة نسبية، كما حدث فى عهد «أوباما» مثلا، وقد تتفارق أو تتنازع «الإدارة» حينا آخر، كما يحدث الآن فى إدارة « ترامب». ولكننا، على خلاف هذا، نزعم أنها دولة واحدة، غير أنها بوجهين: تُظهر وجها أول للتهدئة فى لحظة تاريخية معينة، بينما تُخْفى «الوجه الثانى» للحرب مؤقتا لتظهره فى لحظة تاريخية أخرى، متلونة هكذا حسب مقتضيات الظرف الداخلى والخارجى فى آنٍ معا.
وهكذا فإن ما قد يبدو أنها دولة للأمن القومى الأمريكى كامنة خلف إدارة ترامب الراهنة، مترصدة لها، وسوف (تقلب لها ظهر المجنّ)، إن جدّ الجدّ، هى، فيما نرى، ليست فى الحقيقة منفصلة ــ بما هى كذلك ــ عن الإدارة أو تناصبها العداوة بالضرورة، وإنما تغير لهجتها أو جلدها ولونها الظاهر فقط. وإن الهدف الثابت هو أن تتكاتف فعليا الشريحة الطافية على السطح من النخبة الحاكمة مع الشريحة «الغاطسة»، ومن تكافلهما وتكاملهما الجدلى دوما، وإن اختلفا قليلا أو كثيرا، هنا أو هنالك، تتحقق المحافظة على (استقامة) العقل الاستراتيجى الإمبريالى للولايات المتحدة الأمريكية باتجاه الهيمنة على الصعيد العالمي؛ كما تتحقق وحدة «النظام السياسى الأمريكى» وقدرته على البقاء، إلى حين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved