هل نشهد انحسار «الدبلوماسية متعددة الأطراف»؟

علاء الحديدي
علاء الحديدي

آخر تحديث: الإثنين 9 سبتمبر 2019 - 11:50 م بتوقيت القاهرة

جاءت الذكرى الثمانون لبدء الحرب العالمية الثانية فى الأول من سبتمبر من عام ١٩٣٩ وسط العديد من الأحداث والتطورات الدولية التى حجبت الاحتفال الذى أقيم بهذه المناسبة فى بولندا وحضرته أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية والعديد من وفود الدول التى شاركت فى هذه الحرب. وكان من اللافت للنظر تغيب الرئيس الأمريكى دولاند ترامب عن هذه المناسبة بعد أن كان مقررا أن يحضرها، وقيامه بإيفاد نائبه مايك بنس بدلا منه لتمثيل بلاده فى هذه المناسبة. وقد أرجع ترامب غيابه لضرورة تواجده فى البلاده لمواجهة تداعيات إعصار دوريان الذى ضرب ولاية فلوريدا، وهو ما لم يقنع حلفاء الولايات المتحدة الذين ازدادت شكوكهم حول نزوع واشنطن إلى الانفراد بسياساتها والخروج عن مبدأ MULTILATERALISM وترجمته الحرفية هى «التعددية»، والمقصود بها «الدبلوماسية متعددة الأطراف» والتى تعد من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية.

وقد سبق ذلك ما حدث فى قمة الدول الصناعية السبع فى بياريتز بجنوب فرنسا خلال الفترة من ٢٤ إلى ٢٦ فى أغسطس الماضى، والتى اختتمت أعمالها دون أن يصدر عنها بيان رسمى لرغبة الرئيس الفرنسى الذى استضافها فى تجنب ما حدث فى القمة السابقة فى كويبك بكندا فى يونيو من العام الماضى حين سحب ترامب توقيعه عن البيان الذى صدر آنذاك. الأمر الذى يكشف إلى أى مدى وصلت الخلافات بين واشنطن وبين حلفائها الغربيين من الدول الست الأخرى (المانيا، فرنسا، بريطانيا، اليابان، إيطاليا وكندا) واتساعها، حتى أن البعض بدأ يتحدث عن مجموعة الستة زائد واحد بدلا عن مجموعة السبعة. هذه الفجوة التى باتت تفصل السلوك الأمريكى عن أقرانه الغربيين تجلت فى أكثر من مناسبة منذ تولى الرئيس ترامب الحكم، وكان منها على سبيل المثال لا الحصر انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ ومن الاتفاق النووى مع إيران. ويضاف لما سبق قيام ترامب بالتشكيك فى جدوى حلف الناتو، والعمل على تقويض النظام التجارى الدولى بالحرب التجارية مع الصين، والتهديد بفرض رسوم حمائية على بعض الواردات الأوروبية فيما يعد تجاوزا صارخا لدور منظمة التجارة الدولية المعروفة باسم WTO. كل ذلك يتم من قبل الولايات المتحدة برئاسة ترامب تحت دعوى تغليب المصلحة الأمريكية أولا، وبما يناهض الأسس التى قام عليها النظام الدولى واستقر عليه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

هذا المبدأ الذى بات معروفا فى العلاقات الدولية باسم «التعددية» أو الدبلوماسية متعددة الأطراف، لم يأتِ من فراغ أو كان وليد لحظة معينة، ولكنه كان من أهم الدروس المستخلصة عن أسباب قيام الحرب العالمية الثانية. وكان من أهم هذه الأسباب ما شهدته فترة الثلاثينيات من جنوح الدول المختلفة للانفراد بسياساتها وضرب عرض الحائط بقرارات منظمة «عصبة الأمم» التى نشأت بعد الحرب العالمية الأولى. وكان عدم انضمام الولايات المتحدة الأمريكية لهذه المنظمة أحد أهم أسباب ضعفها وعدم فاعليتها. الأمر الذى حرصت معه واشنطن على عدم تكراره مع إنشاء منظمة «الأمم المتحدة» بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. حقيقة أن العالم شهد انقساما بين ما سمى بالمعسكر الشرقى الشيوعى بزعامة موسكو فى مواجهة المعسكر الغربى الرأسمالى برئاسة واشنطن، ولكن الاثنان اتفقا على الالتزام بالحد الأدنى من نظام دولى يقوم على «التعددية» ممثلا فى منظمة «الأمم المتحدة». ورغم أن منظمة الأمم المتحدة لم تمنع قيام حروب أو أزمات وصراعات أخرى نشبت بين العديد من الدول، إلا أنها على الأقل حافظت على السلام الدولى بمعنى عدم نشوب حرب عالمية ثالثة، وهو ما يعد إنجازا مقارنة بما حدث بعد الحرب العالمية الأولى.

هذه «التعددية» التى تحمست لها واشنطن وتبنتها فى سياستها الخارجية اتخذت أشكالا أخرى كثيرة وعلى عدة مستويات، وكان من أهمها إنشاء حلف شمال الأطلسى المعروف باسم «الناتو» فى إبريل من عام ١٩٤٩. وقد نشأ هذا الحلف أساسا لمجابهة الاتحاد السوفيتى رغم الاتفاق معه على وجود منظمة الأمم المتحدة كما سبقت الإشارة، لكن ذلك لم يمنع من ظهور التنافس ثم الصراع بينهما ليتحول حلفاء الأمس إلى أعداء وخصوم تقوم بينهما حروب بالوكالة. إلا أن هذا التحالف الغربى كان يقوم أيضا على مبدأ «التعددية» الذى حرصت واشنطن عليه بتحمل عبء قيادته بما كان يعنيه ذلك من زيادة مساهمتها المالية والعسكرية عن أى عضو آخر. وهو ما كان يعد أحد أهم أركان السياسة الخارجية الأمريكية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وظهور أشكال جديدة من التهديدات والمخاطر التى باتت تواجه الولايات المتحدة وعلى رأسها الإرهاب الأصولى الإسلامى بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١. ومع عودة روسيا تحت زعامة بوتين لاستعادة مكانتها الدولية وكذلك صعود الصين، باتت الدول الغربية فى أشد الحاجة لتدعيم هذا التحالف بينها وتكريس مبدأ «التعددية» الذى يقوم عليه. إلا أن تصريحات ترامب المتتالية فى الهجوم على الحلف وتهديداته الضمنية بالتخلى عن بعض التزاماته إزاء بعض دوله وإصراره على مصالحه هو فقط ولو على حساب الآخرين، دفعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالتصريح علنا إلى أنه قد آن الأوان للدول الغربية للاعتماد على نفسها. ثم ليأتى بعدها الرئيس الفرنسى إيمانيول ماكرون ليعرض مبادرته الخاصة بإنشاء جيش أوروبى خارج حلف الناتو والتحالف مع الولايات المتحدة.

هذا التفكك أو التصدع فى التحالف الغربى الذى بدأ مع ترامب فى الولايات المتحدة بشعاره «أمريكا أولا» وجد صداه كذلك فى بعض الدول الأوروبية الأخرى. وما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى المعروف باسم بريكسيت، سواء باتفاق أو دون اتفاق، إلا مثالا آخر على تراجع مبدأ «التعددية» لصالح المصلحة الفردية ولكن داخل منظمة الاتحاد الأوروبى هذه المرة. وهو ما يعنى تخلى بريطانيا عن ركن أساسى فى سياستها الخارجية طوال العقود الطويلة الماضية والتى كانت تعد فيها نفسها جزءا من المنظومة أو «التعددية» الأوروبية. المفارقة هنا أن حزب المحافظين تحت زعامة رئيس الوزراء البريطانى الأسبق إدوارد هيث هو الذى انضم للمجموعة الأوروبية فى الأول من يناير من عام ١٩٧٣، ويكون ذات الحزب، أى حزب المحافظين، هو الذى يعمل على الخروج من هذا الاتحاد مهما كلفه ذلك من أمر. وهو ما يراه البعض مسمار آخر فى نعش «التعددية» الأوروبية.

هذا التراجع فى «التعددية» أو الدبلوماسية متعددة الأطراف لا يتوقف عند الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، ولكنه يشجع بعض الدول على أن تحذو حذوهما كلما تراءى لها ذلك وسنحت لها الفرصة. الأمر الذى يعنى تقليص دور الأمم المتحدة أكثر مما هو موجود حاليا، ناهيك عن منظمة التجارة الدولية كما سبقت الإشارة، فضلا عن العديد من المنظمات والهيئات الدولية وبما يعيد الوضع إلى ما كان عليه بعد الحرب العالمية الأولى وقبل الحرب العالمية الثانية. لا يعنى ذلك بالطبع أننا مقبلون على حرب عالمية ثالثة، ولكن شكل جديد فى العلاقات الدولية، لم يعرف كنهه بعد، ولكنه بلا شك جد مختلف عما كان سائدا طوال العقود السبعة الماضية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved