مصر تحتفل.. والشركاء غائبون

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 9 أكتوبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

احتفلت مصر، شعبا وجيشا وقيادة، بالذكرى الأربعين لـ«نصر أكتوبر» والذى يسميه آخرون «حرب العبور» فى جو من الاضطراب يعكس حالة الانقسام التى فرض على البلاد أن تعيشها بعد قيام «دولة الإخوان المسلمين» ثم إسقاطها بالثورة الثانية فى أوائل يونيو الماضى.

واحتفلت سوريا، بذكرى «حرب تشرين التحريرية»، وهى التى كانت شريكا مع مصر، بالتخطيط والإعداد والحشد ثم بالقفزة الأولى أو «العبور» إلى الضفة الثانية من قناة السويس كما إلى مشارف بحيرة طبريا ومرصد جبل الشيخ فى الجولان السورى المحتل.. لكن الاحتفال الرسمى فى دمشق لم يستطع طمس الحقيقة المرة: وهى أن سوريا تعيش أبأس أيامها فى مناخ الحرب الأهلية التى تتهددها فى وحدة شعبها وفى كيانها السياسى.. وهو تهديد جدى يتطاول ليشمل دول الجوار، ولاسيما العراق ولبنان وحتى الأردن المحصن بالحماية الأمريكية ــ الإسرائيلية.

ولم يستذكر أحد أن الدبابات العراقية قد قطعت معظم المسافة من الحدود مع سوريا إلى الجولان على جنازيرها لتستطيع المشاركة فى معركة الدبابات الهائلة التى التهمت أكثر من ألفى دبابة فى بطاح الجولان.

 كذلك غابت هذه الذكرى عن السعودية التى دفع ملكها فيصل بن عبدالعزيز حياته ثمنا لقراره الشجاع بوقف تصدير النفط دعما لمصر وسوريا فى قرارهما التاريخى بالاندفاع معا إلى حرب تحرير الأرض التى احتلتها إسرائيل فى نكسة الخامس من يونيو سنة 1967، وذلك عندما دفع واحد من أمراء العائلة المالكة المصاب باختلال فى الدماغ إلى اغتيال عمه الملك فيصل لغير ما سبب معلن، وإن ساد التقدير أن وراء الجريمة من أراد تأديب الأسرة السعودية، وأية أسرة حاكمة أخرى على أى قرار يتصل بمواجهة إسرائيل.

غابت أيضا عن هذه الذكرى المجيدة ليبيا التى كان لعقيدها معمر القذافى، «قائد ثورة الفاتح» آنذاك، دور محورى حين اتخذ القرار الشجاع بشراء الطائرات الفرنسية من طراز ميراج لحساب الجيش المصرى.. وهى قد شاركت فعلا فى الحرب وكان لها دور مميز فى حماية العبور.

وغابت أيضا الجزائر التى شاركت بقرار رئيسها هوارى بومدين فى تلك الحرب بعتاد مؤثر ومتطوعين فضلا على فتح مخازن الذخيرة على مصراعيها للجيش المصرى وهو يندفع لتحرير أرضه المحتلة عبر قناة السويس.

كذلك غابت بعض أقطار الخليج التى قدمت الدعم المادى، ووحدات رمزية للمشاركة فى «المعركة القومية».

●●●

لقد اختلف الزمان اختلافا جوهريا وافترق رفاق السلاح والشركاء بالدم فى معركة التحرير، ولم يعد احدهم يتذكر الآخرين أو يشير إليهم بكلمة.

ومع أن أيا من الشريكين الأساسيين فى تلك الحرب المجيدة لم يعد يستذكر، إعلاميا على الأقل، دور شريكه بالدم فيها، كما أن منهما يحتفل بمعزل عن الآخر مع إغفال لدوره، إلا أن التاريخ يشهد أن قرار الرد على هزيمة 1967 التى فرضت على الدولتين الشقيقتين كان نقطة تحول تاريخى فى مسار العلاقات العربية ــ العربية، إذ أكد وحدة المصير عبر المواجهة المشتركة للعدو الواحد الذى كان قد نال نصرا لا يستحقه.

ولقد شكل التلاقى على قرار مصيرى بين الدولتين الشقيقتين والشريكتين بالدم فى الرد على الحرب الإسرائيلية المفتوحة، ذروة فى الوعى بوحدة العدو وبخطورته على الحاضر والمستقبل العربى جميعا ــ وليس على هوية فلسطين ومصير شعبها فحسب، بقدر ما كان ردا على هزيمة مريعة جاءت من خارج التوقع، أقسى من أى تقدير، فضلا على أنها كشفت مكامن الخلل فى النظام العربى جميعا.

لكن حرب أكتوبر أفضت إلى نتائج مغايرة لما حققته القفزة الأولى التى كانت موفقة فى توقيتها وفى التخطيط لها وفى الشجاعة الاستثنائية التى ميزت اندفاع الضباط والجنود، على الجبهتين الجنوبية والشمالية، تحت تغطية مميزة من الطيران الحربى الذى شارك بفاعلية فى العملية العسكرية الناجحة التى تدرس الآن فى أكاديميات العلوم العسكرية، لاسيما بخطتها المميزة للعبور والتى نفذها ضباط الجيش المصرى وجنوده بكفاءة معززة بالشجاعة وإرادة النصر.

لكن هذا التلاقى السياسى ــ العسكرى بين مصر وسوريا الذى شكل نقطة تحول فى التاريخ العربى الحديث لم يقدر له أن يستمر وان يتعزز بنصر يمكن توظيفه فى السياسة.

بل إن التلاقى التاريخى انتهى بقطيعة مفجعة، لاسيما بعدما انصرفت قيادة أنور السادات إلى توظيف «العبور» فى مسار يأخذ إلى التسوية، وبشروط مفجعة لا تتوازى مع الدماء المقدسة التى بذلت فى الهجوم، ثم فى صد الهجوم الإسرائيلى المضاد والذى تمكن من الوصول إلى السويس.

وكان طبيعيا أن تنعكس الاندفاعة على الجبهة السورية والتى كادت طلائعها تبلغ حافة بحيرة طبريا، بعدما تمكن المظليون من تطهير المرصد فى جبل الشيخ من جنود الاحتلال الإسرائيلى فى عملية إنزال خاطفة وشجاعة استثنائية.

اختلف المساران، مع وقف إطلاق النار المشروط، وذهب كل من الحليفين والشريكين بالدم، فى طريق، وسط تبادل فظ للاتهامات التى وصلت إلى حد الاتهام بالخيانة..

وعبر السادات «آخر الحروب» فى تقديره إلى الكنيست الإسرائيلى، ثم إلى معاهدة الصلح مع العدو التاريخى فى كامب ديفيد.. بينما وجد الشريك السورى حافظ الأسد نفسه وحيدا، فاختار أن يكمل فى حرب استنزاف مكلفة انتهت بوقف لإطلاق النار واستقدام قوات من الأمم المتحدة لتثبيت خط الفصل بين الجيشين.

هذا كله قد بات من التاريخ.. لكن التاريخ ليس شاهدا أعمى وأخرس، ولا يمكن طى صفحاته ببساطة.

●●●

لنعد إلى الحاضر، إذن، بالصراعات فيه، سواء داخل مصر، وفى المحاولة الإخوانية لاغتيال الثورة الثانية، أو فى سوريا التى تغيبها الحرب الأهلية ــ الدولية عن المسرح وتكاد تحولها إلى أزمة مفتوحة للدول التى يحاول بعضها أن يكون له شراكة فى القرار حول نظامها القائم وحول مستقبل دولتها ووحدة شعبها.

بديهى القول أن حسم معركة التغيير فى مصر ــ الثورة وبناء نظامها الجديد لدولتها الراسخة، بإرادة شعبها وقد تحرر من إسار النفوذ الأجنبى الذى يحاول التخريب على الثورة بالضغوط ــ سياسية واقتصادية، سيشكل بداية لتاريخ عربى جديد.

ومع أن جموع الشعب المصرى، بقياداته السياسية متعددة المنطلق والموقف، تريد استكمال التغيير الثورى على قاعدة دستورية ثابتة، إلا أن دولا وقوى عديدة، فى العالم البعيد كما فى الإقليم، لا تريد دولة قوية فى مصر، ولا تريد خاصة دولة قادرة ومؤهلة بقدرات شعبها وكفاءاته، بل تحاول إرباك ثورتها بالضغوط السياسية، مستغلة خطيئة الإخوان فى شق صفوف الشعب، لعلها تنجح فى إضعاف مصر.

●●●

إن مهمة التغيير الثورى معقدة جدا وصعبة جدا فى بلد محاصر من داخله بالفقر والفشل الذريع لتجربة الإخوان فى الحكم معززة بمعاندتهم واستكبارهم وإصرارهم على المواجهة مع الشعب الذى رفض حكمهم فى أعظم تظاهرة فى تاريخ البشرية، ومحاصر من خارجه بخوف «الدول»، غربية وعربية، ومن دون أن ننسى إسرائيل، من عودة مصر إلى دورها القيادى معززة الآن بالثورة الشعبية التى جددت نفسها مرتين.

ولقد شهدت الاحتفالات بالذكرى الأربعين للسادس من أكتوبر و«العبور» خروج الإخوان على هذه المناسبة الوطنية المجيدة، مما يطعن فى وطنية القيادات الاخوانية التى حاولت إفساد فرحة المصريين بعودة الروح إليهم وعودتهم إلى ميدان الفعل.

بالمقابل فإن الزيارات المتكررة لموفدى الخارج الأوروبى وجها والأمريكى فعلا، والمكلفين بإسداء النصائح لقيادات «العهد الجديد»، وأبرزها «المصالحة» مع الإخوان وإشراكهم فى سلطة ما بعد المرحلة الانتقالية، تثير الشبهات فى مدى صدق البيانات والتصريحات التى كانت صدرت عن هذا «الخارج» الأمريكى حول الاعتراف بشرعية التغيير فى مصر، والاستعداد لمساندة «الدولة الجديدة» التى تستولدها الثورة الشعبية.

ومما يثير الحيرة أن دول الخليج العربى، بقيادة السعودية، قد بادرت ــ بغير طلب ــ إلى ضخ المليارات من الدولارات إلى الخزينة المصرية المنهكة بقرارات الحقبة الإخوانية وما قبلها، معلنة تأييدها المطلق لحركة الجيش المعززة بالتظاهرات المليونية التى أسقطت حكم الإخوان، ثم بعد ذلك تأتى «الوساطات»، حتى لا نقول الضغوط الأوروبية أمريكية المنشأ لتضع سقفا للثورة تحت مسمى «الحرص على الديمقراطية فى النظام الجديد».

ما هى الصلة بين المليارات العربية التى لا يمكن أن تعطى من خلف ظهر الإدارة الأمريكية، وبين الضغوط الغربية التى لا يمكن اعتبارها أوروبية خالصة بل هى أمريكية قطعا؟

ذلك واحد من الأسئلة الكثيرة والمقلقة التى قد تتأخر الإجابة عنها بما يعيق استكمال «الميدان» بناء دولته الجديدة.

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved