قوات فصل الجنسين

على الرجال
على الرجال

آخر تحديث: الخميس 9 أكتوبر 2014 - 8:05 ص بتوقيت القاهرة

منذ عقد أو يزيد، صار محيط مدارس الفتيات ساحة لكافة أنواع التحرش وامتهان الجسد، ومرتعا لصراعات ذكورية وأعمال البلطجة. فى هذه الحقبة لم تكن الدولة تبالى بهذا الأمر، فالخطاب الدائم كان يؤكد أن هذه الأفعال ما هى إلا حالات فردية تحدث فى أى مكان فى العالم. وعلى الرغم من حدوث حالات تحرش جماعى فى قلب العاصمة، فالدولة من خلال شرطتها كانت أكثر اهتماما بسحق أجساد الناشطات فى مظاهرات «كفاية» بل والتحرش الفج بهن للإذلال والتنكيل. والخطاب السائد فى الأوساط الشرطية عن هذه الفتيات هو أنهن لا يحترمن أنفسهن. فقطاع من الضباط والأمناء والعساكر يستنكر سماح ذويهن بنزولهن. وتفشت ظواهر التعدى على المرأة والتحرش بشكل غير مسبوق فى السنوات الأخيرة. وقامت العديد من المجموعات الشبابية بحركات وتنظيمات لمكافحة التحرش. وبدلا من تنسيق الدولة مع تلك المجموعات كانت تتحرش به أمنيا، حتى وصل الأمر لاعتقال بعض أفراد تلك الحركات مثلما حدث بالإسكندرية فى أكتوبر 2013 بجوار سان ستيفانو.

فى مايو 2013 أنشئت إدارة لمتابعة جرائم العنف ضد المرأة. وهى استجابة محمودة من قبل الدولة لمواجهة العنف المكثف ضد المرأة على مستويات متعددة، بأمل توفير قدر أكبر من الأمن للمرأة والأسر بشكل عام فى تحركاتها فى المساحات العامة. فالمؤسسات صارت مجبرة على تلبية الاحتياجات الأمنية للمواطنين وليس فقط احتياجاتها هى. المبشر هو اتساع أفق ورؤية كل من العقيدتين منال العاطف ومنار المختار المسئولتين عن الإدارة. ففى حوارهما مع «المصرى اليوم» أكدتا أن المشكلة لا يمكن أن يتم اختزالها فى مشكلة أمنية فقط. إلا أن الأمر لا يخلو من مخاطر حقيقية فى سبل وكيفيات تنفيذه، وبالأخص حول من يقومون به.

أحلام وأوهام العزل

خطورة قوات مكافحة التحرش هى أنها لن تقتصر فقط على محاربة التحرش ولكن إمكانية تدخلها بشكل قيمى وأخلاقى فى صياغة العلاقة بين الجنسين، وهو ما يعنى العمل على مزيد من الفشل والتحاشى كحل للأزمة وكصياغة متسقة مع رؤية الدولة المحافظة لطبيعة ونمط العلاقة بين الجنسين، وبالطبع سيلاقى هذا ترحابا شديدا من بنية المجتمع القديم التى تميل لحجب المرأة وبالأخص فى المجال العام. وهو ما يتسق مع موروثات قديمة ترى أن الحرة هى من لا تحتاج للخروج من المنزل (مثلا: المتستتة) وأن المرأة فى السوق والشارع هى الأمة المستباحة. وهو الأمر الذى لايزال يوجد حالة من الشيزوفرينيا عند الرجال. فالباحث محمد نعيم يرى أن هذا التناقض ينحر فى صدر الكثير من الذكور، فمن ناحية لم يعد الذكور فى مصر يستطيعون تحمل تكلفة جلوس المرأة فى المنزل اقتصاديا وفى نفس الوقت ما زالوا غير مرتاحين لقرار تواجدها وتفاعلها فى المساحات والمجال العام.

إن أى حل قائم على العزل والفصل شديد الخطورة على مستقبل أكثر تحررا وأقل استبطانا لنماذج وتصورات عنيفة ومكبوتة عن المرأة. وهو ما يعمق من حالة الشيزوفرينيا الذكورية حول المرأة وجسدها ودورها فى المجتمع وما تمثله للرجل، بالأخص إذا ما تم تطبيق مزيد من الإجراءات الأمنية فى المدينة بشكل أقرب لاحتلال للحركة وحصارها. فكلما زاد غموض الآخر (الجنس المختلف، الغريب، المخالف، المهاجر، إلخ) زاد مقدار التشنج والقابلية للعنف ضده. الأزمة أن كل محاولات غلق المجال العام محكومة بالفشل البنيوى والتاريخى، فلم يعد من الممكن الحل من خلال آليات العزل والإقصاء. فأوساط الشباب صارت أكثر تحررا وتواصلا مع بعضها البعض. وصار نمط العلاقات المختلطة أمرا واقعا ومتجاوزا لمجرد التلاقى فى مساحات التعليم مثل الجامعة فى كل مدن مصر الكبيرة. ومحاولات العزل تعنى الدخول فى انفجارات اجتماعية دائمة فى العلاقة مع أنماط وتشكيلات مختلفة من السلطة تمثل نفس الجوهر وأحيانا نفس نمط الممارسات. بالأخص إن الدولة صارت تميل لحل مشاكلها مع المجتمع من خلال بناء الجدران العازلة وغلق الشوارع تحت مزاعم الأمن، وهو تجلى للحكم العسكرى فى المساحات المدنية.

وإذا لم يراع الحرص ورسم حدود معروفة لتدخل هذه القوات فى المجال العام، فربما ينقلب الأمر ويتحول لقوات تفتيش وضبط أخلاقى على علاقات الناس ونمط حياتهم والتدخل بشكل سافر لبناء سلطة ومراقبة أخلاقية على حياة الأفراد. وهو أمر بمثابة انتهاك صريح للحقوق والحريات الشخصية. وبالتالى استبدال فاشية دينية (التى مثلها الإسلام السياسى) فى هذه المساحات بفاشية دولاتية مصحوبة بوصاية أخلاقية من قبل الشرطة تحديدا. وهو أمر واقع بالفعل؛ فاللجان والكمائن فى المدن أو على الطرق (طريق العين السخنة نموذجا)، سواء كانت من قبل الجيش أو الداخلية صارت تتدخل بشكل سافر فيما لا يعنيها قانونا، مثل السؤال عن طبيعة العلاقة بين الجنسين فى نفس السيارة أو إجبار الأفراد على سكب زجاجات الخمور المغلقة مثلما ذكرت عالمة الاجتماع ريم سعد حالات عدة فى إحدى مقالاتها بالشروق.

الشباب كموضع اشتباه

إحدى المخاطر الكبرى من ترسيخ النزعة الأمنية فى التعاطى مع مثل هذه الأمور، هو أن الشباب سيكون موضع اشتباه دائم. وهو الأمر الآخذ فى التحقق من تلقاء ذاته بسبب الثورة. فالثورة منذ يومها الأول نعتت بأنها ثورة شباب. وبالفعل صار تجمعهم مصدرا لقلق وتوجس الأمن. وتم إيجاد صورة نمطية عن هؤلاء الشباب وتصنيفهم «كخطر». فالصورة الذهنية التى رسمت عنهم هى هؤلاء الشباب ذوو الشعر الطويل والسراويل الساقطة من الخلف وحاملو الحقائب على الظهر ومرتدو السراويل القصيرة وكاميرات التصوير والكوفيات الفلسطينية، أما فتيات الثورة فهن أصحاب الصوت الزاعق وأصحاب الشعر غير المهندم والمتطاير ومدخنات السجائر، والصورة المتخيلة عن كليهما وعلاقتهما ببعضهما البعض هى صورة أقرب لصور حفلات الجنس الجماعى. ففى نظر السلطة هؤلاء الشباب يتسمون بالانحلال الخلقى الكامل، حتى إن المقولة الخالدة عن تجمعهم فى ميدان التحرير هى صورة العلاقات الجنسية الكاملة!!

أطراف الحل المأزومون

تتهم الدولة فى خطابها النشطاء والباحثين والمثقفين بعدم معرفة حقيقة المجتمع والانخراط فيه. يبدو لى أن أحدا عليه قلب هذا المنطق. فالوزارة لا يبدو أنها على علم بما يحدث فى محيطها نفسه. فأنا أدعو كلا من العقيدتين منال العاطف ومنار المختار لخلع الزى الرسمى والمرور بجانب تجمعات الأمن المركزى المنتشرة حول وزارة الداخلية، لربما تتعمق خلفيتهما بممارسات وزارتهما نفسها! فهناك احتياج لتغير جذرى داخل بنية وتصورات وممارسات الوزارة أولا حتى يتسنى لها توفير الأمن بدلا من توفير الانتهاك والتحرش أو العزل والفصل، وهى الأمور التى تبدع فى توفيرها. فإذا كانت جزءا أصيلا من المشكلة فمن الصعب أن تكون المكون الرئيسى والوحيد فى حلها وتحويلها. ويكمن حل هذه الأزمة فى تحالف واسع وخلاق بين إدارة مكافحة التحرش والتعدى على المرأة وبين النشطاء السياسيين والحقوقيين ومؤسسات المجتمع المدنى، إلا أن خطاب الاثنين تحريضى وقائم على التخوين المتبادل.

إن ثمة شيئا لم يتغير فى بنية وطبيعة هذه المؤسسة غير إحساسها بوقع الهزيمة من الثورة، وثمة شىء لم يتغير فى طبيعة وبنية العلاقة بين النشطاء والداخلية، بل على العكس فالفجوة تتسع والضغينة تتعمق والمرارة المتبادلة تزداد. إن أى حل لا يتسع لشبكات مجتمعية وشبابية وسياسية مع الدولة لن يقود إلا لمزيد من العسكرة وتوحش للنزعة الأمنية، وهو ما سوف يعنى مزيدا من القمع والتمرد

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved