«أكيد انتو مش عايزين كمية الأسر دى تتدمر فى دولتكم وبلدكم»

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الخميس 9 أكتوبر 2014 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

جاء العيد، كل سنة وانتو طيبين، لكنه فى الحقيقة كان ثقيلا، يتجه نحو ذكرى مذبحة ماسبيرو، والشهداء لم يأت حقهم، وشباب جدد فى السجون. لم يرفع من روحنا سوى تلك الحركة الفنية الثورية البارة الجميلة التى قام بها بعض الشباب وكان نتيجتها أن أصبحنا صباح العيد على وجوه عدد من الشباب المحبوس ظلما وهى منورة فى بوسترات أنيقة على لوحات الإعلانات فى الدقى والمهندسين. كان تجليا، وبيانا واضحا، أننا نذكرهم، ونحملهم معنا فى كل لحظة، ليس فقط من أضاءت وجوههم الشوارع، بل الآلاف المحبوسين ظلما وقهرا واستهتارا واستعفاء.

والشهداء.

الآلاف، وآلاف الأسر، قضوا عيدا يملؤه القلق، على المستقبل والأبناء والعمل، على الدراسة، على الأموال والمصاريف والنفقات، على قصص حب مهددة، على الصحة، على الأهل من كبار السن.. وكل واحد من هؤلاء الآلاف ــ بما أننا مضطرون، فيما يبدو، لتكرار البديهيات ــ كل واحد إنسان كامل متفرد، كل واحد عالم كامل، بجسده وخياله وطموحاته وقدراته وأحاسيسه و.. محبيه: تلك العوالم الأخرى التى تتشابك معه وتتأثر بأحواله، ولذا كان من قتل نفسا «فكأنما قتل الناس جميعا».

ومن هذه العوالم، أعود اليوم إلى المهندس باسم (راجع مقالى فى الشروق ٧ أغسطس وبعد ذلك) المحبوس الآن منذ عشرة أشهر، والذى تحددت لقضيته جلسة استئناف بعد أيام، والذى يصف اختطافه من أحد شوارع مدينة نصر هكذا:

..وف يوم فكسان، فهمان كان ماشى ف الشارع زى أى إنسان، بيخلص كذا مشوار كانو عاملينله قلبان، لقى ناس بتقفش فيه قفشان، بيجروه ويبهدلوه وهو يصرخ فيه إيه يا جدعان؟، قالوله إمشى معانا منغير ما تقاوم ولا تفتح بقك كمان!

فهمان اكتشف بعد خطوتين، إن دول من الدرك وبقوات كتيرة كانوا واقفين، وف الشارع ناصبين ميت كمين، وهو ف عربية صاج راحوا راميين. فهمان لقى ناس كتيرة فى العربية قاعدين، شباب وشيوخ، سألهم هو فيه إيه يا بنى آدمين؟ والكل قاعدين ساكتين ومسهمين!

فهمان، وهو قاعد ف العربية، سامع ضابط الدرك بيكلم قائد العملية، بيقول ناقص لينا خمسة عشان نقفل القضية!

المهندس باسم كان له أصدقاء، وأقارب، ومعارف، وعاملين وموظفين ومهندسين بيشتغلوا معاه. وله زوجة، و٣ أطفال، وأب وأم، و٣ إخوات بنات، أفسح المجال هنا لصوت واحدة منهن وقد قررت تارة أن تخاطب رئيس الدولة وتارة أن تخاطب الناس وتارة أن تخاطبني. وأعتقد أن القارئ الكريم لن يحتاج، بعد أن يقرأ الرسالة، أن أشرح له أسباب إعجابى بهذه الشابة. اسمعوها.

•••

انا اخت المعتقل. اسمى أميرة، وعندى ٢٩ سنة هى كل عمرى وخبرتى فى الدنيا

سيادة الرئيس، عارفة انك مبدئيا هتقول معندناش معتقلين. أستأذنك تقرأ خطابى للآخر. انا مش هاتكلم عن أخويا الكبير والوحيد على ٣ بنات، المحكوم بمائة ألف جنيه غرامة وخمس سنين حبس قضى منها ما يزيد على تسعة أشهر ولسه مستنيين جلسة الاستئناف المؤجلة ــ لأ، إسمحلى أنا هاكلمك عن نفسى، الشابة اللى بدأ احتكاكها بالسياسة زى غيرها كتير يوم ٢٥ يناير ٢٠١١، ولما بدأت تفهم وتعرف حقائق كتير كانت غايبة عنها شاركت بكل كيانها فى الثورة من ورا مامتها زى شباب وبنات كتيييييييييير أهلهم كانوا بيخافوا عليهم من نزول الميدان. أنا اللى عيطت على كل أخ وأخت فقدتهم خلال المرحلة دى، أنا اللى شفت جنازة أحمد إيهاب، الله يرحمه، من شارع مصطفى النحاس إلى التحرير مشيا على الأقدام، ولو حضرتك مش فاكره هو الشهيد اللى كان متجوز قبل الثورة بقاله ٣ شهور ومات عريس. أنا اللى احتفلت فى الشارع يوم التنحى، وأنا اللى اعترضت على الشتيمة فى الهتافات بهتافي: «منغير شتيمة/ إحنا أحسن».

أنا برضه اللى بعد التنحى بشهر ونص، لما بدأت الأمور تتداخل مع بعضها، وكان فهمى فى السياسة مش مساعدنى انى أعرف الصح من الغلط، قررت أوجه نشاطى فى عمل مفيد: واحدة من شباب كتير ساعدنا فى علاج العشرات من مصابى الثورة، جمعنا التبرعات لعلاجهم وجراحاتهم ومتابعتهم فى المستشفيات والسفر لبيوتهم فى الشرقية والغربية وميت غمر والمحافظات كلها عشان نوصل لهم الدوا والفلوس ونتابع حالاتهم بعد الجراحة

أنا بنت أبويا اللى عمره ٧٥ سنة قضى منهم ٢٠ سنة فى القوات الجوية، خلقوا عنده ارتباط لا ينفك بلون السما، لسه لحد دلوقتى متمسك بيه فى معظم هدومه ولون حيطة أوضته بعد ماكان لون شقتنا كلها - لما كبرنا قدرنا نغيره ماعدا اوضة بابا فلون السما فيها لا يقبل المساس. أبويا فى القوات الجوية شارك فى حرب اليمن. وأبويا أصيب بعد القبض على ابنه فى العام الماضى بنزيف كاد يقضى على حياته وأبقاه عشرة أيام فى الرعاية المركزة، وجابله جلطة فى عينه فقد بعدها النظر. ساعتها كرهت دراستى العلمية ذات الخلفية الطبية اللى خلتنى فاهمة حالة بابا. بابا كان دايما يحب يلعب (نيشان) ويورينا قد إيه هو شاطر فى التنشين على أصغر هدف، وعينه كانت لآخر لحظة نظرها ٦/٦ رغم كبر سنه، ومعروف فى عيلتنا ان نظرى طالع قوى لبابايا وعشان كده لم أتأثر من كتر النظر فى الميكروسكوبات أثناء دراستى وشغلى

بابا يوم ما ابنه اترفض من الفنية العسكرية عشان عنده استجماتيزم، والتحق بكلية الهندسة، كان بالنسبة له يوم الفشل الذريع لابنه الوحيد وانه خيب أمله فيه عشان هيطلع مدنى مش عسكرى، وقال له «انا غلطان انى اشتريتلك الأتارى اللى بوظ عينيك». أنا البنت اللى أول ما حصلت على البكالوريوس قدمت على تكليف القوات المسلحة وكان حلمها تبقى (ملازم أول) وتلبس البدلة الميرى زى معظم رجالة عيلتها من أعمام وولاد أعمام وولاد ولاد أعمام وولاد خال، وأنا هى البنت اللى صاحباتها البنات فيه منهم رتب ما شاء الله فى جهاز الشرطة المصرية، وأزواج صاحباتها وولاد أعمامها وولاد ولاد أعمامها برضه فى جهاز الشرطة

انا البنت الملتزمة بالموضوعية فى أفكارها لآخر لحظة. أصحابها بيتهموها أنها خلقت لتعترض، وان دايما النظام مش عاجبها، وفى نفس الوقت لما بتقابل مؤيدى الشرعية فى زياراتها لأخوها فى القسم وفى السجن فهى «البنت وليدة العائلة الانقلابية (بتاعة ٦/٣٠) اللى أخوها معانا فى العنبر»، وده لأنى لما بادافع عن مبدأ بأعممه بصرف النظر عن أى انتماء سياسى وأنا بقى البنت اللى حياتها وقفت عند حالة واحدة: انها تشتغل أكتر من ١٠ ساعات فى اليوم، كل يوم، عشان تقدر تقوم بالمصاريف اللى وقعت على الأسرة بسبب حبس أخوها: تصرف على الزيارات لأخوها فى السجن اللى بيبعد عن منطقة سكنها بأكتر من ١٥٠ كيلو، وتدفع عن أخوها أقساطه والتزاماته المادية المختلفة، ومصاريف أولاده التلاتة ومدارسهم، وكمان متحَمِّلش باباها أى عبء إضافى عشان مصاريف العلاج اللى معاشه بيكفيها بالعافية.

سيدى الرئيس... القانون بيقول ان معندناش معتقلين فى مصر، بس يؤسفنى أبلغك ان القانون نفسه مش دايما قائم وبيطبق فى مصر، واسمحلى أعرض على حضرتك بعض حالات كسر القانون اللى باقابلها فى رحلتى فى عدة أماكن من اللى أخويا مر عليها:

فين القانون لما الزيارة اللى بنعد الـ ١٥ يوم عشان نروحها لا تتعدى ١٥ دقيقة ويمكن أقل؟

فين القانون لما فى تفتيش الزيارة (المأكولات والأمتعة التى يحتاجها المسجون) يتفرض علينا ندفع فلوس عشان الزيارة تدخل ولو مدفعناش ماتدخلش؟

فين القانون لما نبعت لمسجون عصير وفاكهة وتدخل له الزيارة منغيره ومنغير نص الأكل لأنه بيتسرق؟

فين القانون يحمينا لما نقابل ناس معندهاش ضمير مسمية نفسها محامين تاخد مننا أتعاب وبعد كده تقفل تليفوناتها؟ ومحامين تانيين مفروضين علينا لأنهم محامين ناس معانا فى القضية، بس لهم اتجاه سياسى مخالف فيشاغبوا مع القاضى عشان ياخدوا أحكام ويظهروا بدور الضحية؟

فين القانون أساسا لما أخويا يتقبض عليه عشوائى فيتحكم عليه بخمس سنين ومائة الف جنيه غرامة؟

طيب هو مش القانون بيفرق فى مدد الأحكام مع اختلاف التهم؟ طيب ازاى كل المتهمين فى قضيتنا ياخدوا نفس الحكم مع اختلاف التهم؟

أنا يا فندم بأطالبك بتنفيذ وعدك ان كل القضايا اللى مفيهاش دم هيتم النظر فيها

لو روح القانون العدل فأنا بأطالبك تطبق روح القانون على ابويا اللى خايفة افقده فى اى لحظة، وتطبيقها على امى اللى ربنا عالم هى مكملة فى الدنيا ازاى عشان بس تطمن على ابنها وأحفادها التلاتة

طبقها على ولاد اخويا اللى أصغر واحد فيهم كان عنده وقت القبض على باباه سبع شهور طبقها عليا عشان انا بجد استهلكت نفسيا وجسديا وشغلى اتأثر بدرجة كبيرة وممكن افقده، وهو مصدر دخلى الوحيد اللى معتمدة عليه عشان أواجه اعبائى الجديدة

طبقه على اخويا المظلوم وصدقنى حضرتك - لازم تصدق - ان فيه ناس كتير محبوسة ظلم منها اخويا اللى خسر شغله وحياته وأكتر من ٤٠ كيلو من وزنه من الحزن

طبقوا روح القانون اللى هتنقذوا بيها طلبة كتير وأرباب أسر أكتر. أكيد انتو مش عايزين كمية الأسر دى تتدمر فى دولتكم وبلدكم؟

طبقوا روح القانون وارحموا أمهات دموعها نشفت من البكا واخوات بنات غيرى كتير مالهمش أخ غير المحبوس وهم اللى بيجروا بين النيابات وقاعات المحاكم ومكاتب المحامين

انقذوا الأبهات الكبيرة فى السن اللى كل أملهم دلوقتى يشوفوا ولادهم برة سور السجن

قوليلهم يا دكتورة أهداف اننا من الشباب اللى قلتى عنهم قبل كده (نحب الحياة ان استطعنا اليها سبيلا) وإننا عمرنا ابدا ما كنا محبين للموت

قوليلهم انى كنت من أوائل الناس فى صفوف المواجهة أيام ما كنا بننزل ضد حكم الإخوان وأيام ثورة يناير ويهجم علينا بلطجية ويتضرب علينا نار وماكنتش باخاف وكنت باحمى الناس اللى معايا وانى شايفة نفسى مش أقل من أى جندى مات فى ميدان معركة أو اتاخد غدر بقنبلة لأنى زيى زيه مش باخاف من الموت وأنا بادافع عن بلدى وعن الحق وهاقابل ربى شهيدة

قوليلهم انى قريبة يعقوب، الله يرحمه، اللى استشهد ضمن الـ ١٨ جندى من رفح، وان بنت خالى لما جابت ولد سمته يعقوب على اسم الشهيد

أنا نفس البنت اللى قلبها بيتخلع كل ما تقرأ عن هجوم ضد حد من الشرطة لحسن يكون المصاب حد من أصحابها أو قرايبها

أنا برضه نفس البنت اللى كانت فى اعتصام التحرير أيام حكم محمد مرسى، وبتغنى (الكائن الاخواني) مع اللى بيغنوا، وكانوا ساعتها بيهددونا باقتحام الميدان وضرب كل اللى فيه، واحنا ماخفناش واستمرينا فى اعتصامنا، لكن لما لقيت راجل كبير داخل شايل يافطة وكاتب عليها كلام مستفز لينا واتجمع الشباب حواليه عشان يضربوه أنا حُشت عنه عشان عيب نضرب راجل قد أبونا

انا مش باطلب حاجة مستحيلة أو صعبة: انا باطلب العدل وروح القانون.

أخويا وكتير زيه اتقبض عليهم عشوائى فى وسط ظروف كلنا كنا عايشينها وبندعى لربنا انها تعدى على خير

انا باطلب العدل وروح القانون

وأحب أطمن حضراتكم انكم لو خايفين تفرجوا عن أخويا واللى زيه لحسن يكونوا مؤذيين ويئذوا البلد، أحب أطمنكم وأبصم لكم بصوابعى العشرة ومستعدة اقدملكم إقرار ان أول ما أخويا هيخرج هاخده هو وبابا وماما وولاده واخواتى وهنسافر بره البلد. مش هنقعد فيها والله. مع أول فرصة هنسيبها. وماتستغربوش اننا بقينا حاسين انها مش بلدنا.

احنا كل اللى عايزينه اننا نعيش بكرامة ونموت بكرامة، وده مش كتير علينا، ده حقنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved