قلب المدينة

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

أبحث فى كل مدينة جديدة عن القلب، أريد دوما أن أتمركز فى المركز، لا أحب الضواحى تماما كما أنفر من حواشى الكتب. أحب لب الموضوع، وسط المدينة، منبع القصص والأحداث، مقر المقاهى ونقطة الانطلاق. أرتاح وسط الزحام، فيه عنصر استقرار ربما بسبب أصوات أجدها هى نفسها فى كل المدن الكبيرة، حين تختلط زمامير السيارات بنداء الباعة المتجولين، حين أسمع فى السيارة بقربى حديثا يجريه السائق على هاتفه المحمول. أتمايل مع موسيقى مألوفة تصلنى من سيارة أخرى. ثم بائع الصحف. يا الله ما زال باعة الصحف يجولون بين السيارات على أقدامهم بينما ينشغل السائقون بقراءة الأخبار من على هواتفهم الذكية. فى كل زيارة إلى بيروت، أتذكر كم أحب قلب المدينة، أو رأسها كما يسميها أهلها، إذ إنه درج استخدام لقب «رأس بيروت» بالإشارة إلى مناطق كانت الأكثر حيوية تجاريا وثقافيا فى أيام المدينة الذهبية منذ عقود، قبل أن تمر جرافات الحرب الأهلية على المبانى وتمزق الأرواح.
***
فى بيروت، كما فى المدن الأخرى، أشعر أننى أنتمى إلى المركز، إلى شوارع ضيقة وأحياء مكتظة، أعطى عنوان البيت لصديقة على الهاتف فلا أشير إلى اسم الشارع أو رقم المنزل. أشرح لها أنها سوف تمر أمام محل البقالة، سوف تعرفه من كمية الفاكهة الملونة التى يرصها صاحب الدكان كل صباح بعناية، كأم تسرح شعر ابنتها قبل المدرسة وتربط ضفيرتيها بشريط أبيض. أطلب من صديقتى أن تضع البقال على طرفها الأيمن، أو لسنا نشرح الاتجاهات بحسب طرفنا الأيمن والأيسر فى وسط المدينة؟ سوف تصل إلى المخبز الذى توقظ سكان الحى رائحة خبزه كل صباح. رائحة الخبز الطازج تشبه قبلة تطبعها جدة على جبين حفيدة كل يوم جمعة، يوم الزيارة العائلية. فى قبلة الجدة، كما فى رائحة الخبز، حنان لا ينتهى ومأوى من العالم، فى الفرن كما فى حضن الجدة. «امشى على طول حتى تصلى عند سور المدرسة ثم ادخلى فى الحارة بعد بائع عصير، على فكرة عصير الرمان عنده عظيم. توقفى واشربى كأسا ثم أكملى فى نفس الاتجاه وادخلى فى العمارة الثانية على الشمال».
***
بالله عليكم، كيف أستشهد بالبقال وبائع العصير والمخبز فى مدن جديدة لا أفهم مداخلها من مخارجها بسبب تشابه كل ما فيها؟ كيف أمشى فى شوارع لم تختبئ خلف أبوابها ضحكة طفلين ركضا بعد أن قرعا جرس بيت الجيران؟ كيف أجد أجزاء من نفسى فى عواصم بنيت حديثا لأسباب سياسية لا تمت للإنسانية بصلة؟
***
هذه هى المدينة، مدينتى، مكان فيه حياة وأصوات وقصص، حى فيه محلات صغيرة تبيع أشياء ربما لن أحتاجها إنما أحتاج إلى وجودها من حولى. أحتاج أن ألقى تحية على البائع والحلاق، وأسترق السمع إلى حديثهما فى الصباح الباكر قبل أن يزدحم محلاهما فيتوقفا عن تناقل أخبار السكان. أظن أن كل قصص الحى ينتهى بها المطاف عند البقال والحلاق، يتلقفانها بخفة ويحتفظان بها لبضعة دقائق قبل أن يبدءا بفرشها أمام محليهما بعد أن يرشا الماء.
***
فى قلب المدينة الكثير من القسوة، طفلة لا تتذكر شيئا سوى الشارع وروائح آخر الليل، تركت هى أيضا طفلتها على الرصيف كما تركتها أمها من قبلها، ظنتها لعبة فى أول الأمر ثم فهمت أنها كائن حى فخافت. تركت الطفلة لعبتها الحية على الرصيف وعادت إلى الحارة التى تبتلعها كل يوم، ففى تلك القسوة ألفة لا تتحمل أن تفارقها طويلا. قلب المدينة ينبض بالحب وبالكراهية، يتدفق حنانا ويتقيؤ قسوة. يطير سرب حمام ساعة الغروب فوق البيوت فتنفتح طاقة فى السماء يدخل منها دعاء الأمهات. تنغلق الطاقة ويرمى اللون الأسود ذيل ثوبه على الشوارع.
***
فى قلب المدينة شريان ونبض، ألوان وعواطف، قصص حب وقصص معلقة على حبال الغسيل فى الشرفات، وقصص فراق تشهد عليها بائعة النعناع الطازج من مكان استراحتها فى ظل شجرة الجهنمية. فى قلب المدينة دوما أحداث وأحاديث، ومراهقة توشوش أمها قبل أن تشير إلى واجهة محل يعرض أحذية مستوردة. وشاب يراقب المراهقة من بعيد تلمحه الأم بحدسها قبل عينيها. أسرار المدينة على شرفات منازلها، وقصص الحب تعشعش على الأسطح. قلب المدينة يتأوه كثيرا من أمراض الشيخوخة لكنه يعود وينتعش مع أول قطرة مطر فى الخريف، هو يعرف أن كل قطرة تحمل كلمة حب يهمسها شاب فى أذن حبيبته. وها هو القلب يعود شابا هو الآخر.

كاتبة سورية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved