فنون إعلانية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 9 نوفمبر 2011 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

مرات ومرات أوقفتنى رائحة شواء على الفحم تحرضنى على شرائه وتناوله بنهم شديد. وفى معظم هذه المرات لم يكن الجوع دافعا رئيسيا، ولم يكن الوقت موعد غداء أو عشاء، ولم تكن الصحبة طرفا مشجعا. كان مشوار عودتنا من السينما الصيفية ليلة الخميس يمر على مواقع شواء عديدة، وكان أغلبها مقام عند ملتقى نواصى تصب عندها وتهب منها ريح هادئة، ولكن كافية لنقل رائحة الشواء إلى أبعد مسافة ممكنة. لم أعرف إلا متأخرا جدا أن الطاهى كان يتعمد، بين الحين والآخر، إلقاء قطعة من الدهن فى الفحم الملتهب فيصعد دخان كثيف مفعم برائحة شواء ذكية، وأن رائحة الدهن وليس منظر اللحم المشوى أو الفحم المحترق هى «الطعم» الذى كان يستدرجنا لنتحول من عابرى طريق إلى مستهلكين نهمين.

 

●●●

 

مرات أخرى أوقفتنى رائحة خبز خارج لتوه من الفرن. كان على الطريق المؤدية إلى منزلى فى حى قرطاج بتونس مخبز اختار موقعا منفتحا على نسائم هواء تهب من البحر صاعدة نحو التل. هناك على السفح يظهر الخباز على باب دكانه حاملا لوحا خشبيا اصطفت فوقه أرغفة خبز «الباجيت» الفرنسى الخارج لتوه من الفرن، وفى يده فرشاة الزبدة السائلة يمر بها بفخر وإعجاب على سطح الأرغفة الذهبية. تبدو نسائم البحر وكأنها كانت تنتظر لحظة خروج الخبز من الفرن لتحمل رائحتها الفريدة وتدخل بها البيوت المجاورة والسيارات المارة عبر نوافذها. أتوقف كل يوم وأشترى وأواصل مشوار العودة وأصل إلى منزلى بعد أن أكون قد استهلكت بعض الرغيف وأحيانا كله.

 

مررت مرة أخرى بتجربة الانجذاب لرائحة الخبز الفرنسى الخارج لتوه من الفرن. كنت أمر فى أحد شوارع باريس الأنيقة حين وصلت إلى حواسى رائحة خبز طازج وفعلت فعلها. وجدت نفسى أمشى وراء الرائحة حتى وصلت إلى مصدرها فى مخبز صغير يقع فى شارع جانبى. أخذت دورى فى طابور اصطف فيه كثيرون ممن استدرجتهم الرائحة واشتريت رغيفا طوله متر أو أقل قليلا، ومضيت راجعا إلى الشارع الأنيق وأنا أفعل مع الرغيف ما يفعله الباريسيون.

 

لم أعرف وقتها أن مطاعم ومقاهى شهيرة فى كبرى مجمعات البيع تبث فى الهواء المحيط بها من أنابيب وعبوات بلاستيكية رائحة خبز وكرواسان طازج لإثارة الرغبة فى الأكل. أعرف الآن من خلال دراسة أجرتها مجلة بحوث المستهلك البريطانية ونشرتها مؤخرا، أن رائحة البيتزا الساخنة تعبأ فى أنابيب لتبث فى الهواء المحيط بالمطاعم والمقاهى. يطلق عليها خبراء فنون الإعلان eau de pizza تشبها بأسماء العطور الفرنسية، باعتبار أنها تتمتع بقدرة خارقة على فتح الشهية وإثارة لعاب الشباب والأطفال بصفة خاصة..

 

●●●

 

لاحظ أصدقاء دخلوا تجربة البحث خلال إقامتهم بالولايات المتحدة عن شقق وفيللات جديدة للإيجار أو للشراء، أنه فى أكثر من موقع، ما أن يفتح لهم السمسار الباب الخارجى إلا وتتسرب إليهم رائحة طعام يجرى طهيه. تبين لهم فيما بعد أن السماسرة وشركات العقارات يعتقدون أن المستأجر أو المشترى يشعر بالألفة والأمان إذا دخل بيتا تفوح فيه رائحة طعام، ويفضله على بيت تصدمه عند الدخول روائح زيوت طلاء ومطهرات كيماوية. تبين لهم أيضا أن السمسار الأمريكى عادة ما يسبق الزبائن إلى البيت المطروح للبيع أو للإيجار ويبث فى هوائه رائحة مطابخ وخبز طازج وفطيرة التفاح المطعمة بالقرفة.

 

●●●

 

نقرأ كثيرا عن جهود متواصلة يقوم بها خبراء وتمولها شركات إعلان كبرى للتوصل إلى اختراع يسمح باستخدام حاسة الشم لدى مشاهدى التليفزيون فى الترويج لسلع يعلن عنها فى الشبكة الالكترونية. لا يكفى لإقناع مشاهد عرض صور امرأة جميلة تقع مغشيا عليها إذا اقترب منها رجل يضع عطرا معينا، أو إقناع مشاهدة بصور لرجل بديع القوام تسلب إرادته امرأة تستخدم عطرا أنثويا ساحرا. الجميع يعتقدون أن المشاهدين لن يقتنعوا بشراء العطر إلا إذا اشتركت فى اتخاذ القرار حاسة الشم، خاصة أنها مع حاسة اللمس لا تزالان الحاستين الوحيدتين المحرومتين من الاستمتاع بالتليفزيون والكمبيوتر على حد سواء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved