الإسلاميون (يلتهمون) الربيع العربى ... والعروبة تدفع ضريبة الأنظمة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 9 نوفمبر 2011 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

تتزاحم قوى كونية عظمى وقيادات عربية، بينها الملكى المذهب والإسلامى المموه بالقدسية، والمستولد حديثا من رحم العصر الأمريكى والخارج مدحورا من المواجهة مع المشروع الامبراطورى الإسرائيلى على نعى «العروبة» وكل ما يمت إليها بصلة مثل «القومية العربية» وصولا إلى إنكار وحدة الوجدان العربى. يتم طمس أية ملامح محتملة للعروبة فى أى عملية تغيير جرت أو يجرى الإعداد لإتمامها فى هذا القطر أو ذاك من الأقطار العربية، مشرقا ومغربا. تصفح الثورة بالشعار الإسلامى وقد أعيدت صياغته بما يتناسب مع «قيم العصر»... الأمريكى، وهكذا يصبح «مدنيا» وتسقط منه «الأحكام الشرعية» التى تخص المرأة وقواعد السلوك. من باب أولى أن تسقط فلسطين من البيانات التأسيسية وخطاب الاحتفال بالنصر، وأن يعاد الاعتبار إلى اليهود المحليين كمواطنين صالحين متساوين فى الحقوق والواجبات مع اتباع الديانات الأخرى، بينما يختفى أى ذكر لإسرائيل..

 

لكأنما هذه الثورات التى تزلزل الأنظمة العربية فتسقطها إنما تهبط من الفضاء الخارجى، لا تنبع من أرض الناس ومن قلوبهم ومن آمالهم وأمانيهم المكسورة، ومن طموحاتهم إلى مستقبل أفضل يرون أنفسهم جديرين به، ولديهم كل الاستعداد لأن يقدموا التضحيات الغوالى من أجل بنائه. وبالتأكيد فإن «الثوار» الذين فاجأهم السقوط السريع لبعض أنظمة الطغيان لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لاستلام السلطة. ولقد أربكهم ذلك السقوط المباغت فزاد اضطرابهم وتشققت صفوفهم التى اجتمعت تحت راية المعارضة ولم تكن قد تلاقت على قواسم مشتركة فكرية وسياسية، كما أنهم ـ بمجموعهم ـ لم يكونوا يملكون مشروعا سياسيا وبرنامجا للحكم. حتى أعظمهم تجربة، كالإخوان المسلمين فى مصر، لم يكن جاهزا لاستلام السلطة وتحمل مسئوليات العهد الجديد بكل أثقال تركة النظام المتهالك الذى كان يمسك بمفاصل البلاد جميعا فى الإدارة والعمل الشعبى عن طريق تنظيمه الحكومى من دون أن ننسى القوات المسلحة وهو من اختار قياداتها العليا وفق معاييره وارتباطاته السياسية ومنظورة إلى بلاده والمنطقة من حوله.

 

كانت التعبيرات السياسية عن العروبة فى أسوأ حالاتها: الأحزاب التى طالما حملت الرايات قد التهمتها السلطة فدمرت المؤسسة السياسية وحقرت الشعار حينما جعلته مجرد ستارة تموه الحكم الفردى وتغطيه عبر أشكال تنظيمية مفرغة من أى مضمون. تساوت أحزاب السلطة، وبمعزل عن شعاراتها، فى أنها القناع الشعبى للحكم الديكتاتورى... وهكذا دفعت الوطنية والعروبة الضريبة مرتين: إذ هى مستبعدة عمليا عن القرار الذى سوف تتحمل ـ معنويا ـ مسئوليته السياسية. أى أن العروبة، وهى حاصل جمع الوطنيات، كانت الضحية الأولى للأنظمة التى حكت باسمها، من ظل على إيمانه بها صيره النظام معارضا ورأى فيه الخصم وكاشف تزويره، وبالتالى فقد خصه بالاضطهاد حتى يتسنى له الادعاء بأنه الممثل الشعبى الوحيد للإرادة الوطنية وللقضية القومية.

 

●●●

 

صحيح أن الأنظمة القائمة كانت ترى فى التنظيمات الإسلامية، والإخوان فى الطليعة، خصوما، لكنها سرعان ما اكتشفت أن المساومة معهم ممكنة، وبالتالى فمن السهل شراء صمتهم أو حتى تأييدهم بقبولهم فى النادى، عبر السماح لهم بحرية حركة محدودة، وإشراكهم فى البرلمان المعين، مقابل أن يتولوا الدفاع عنه والتوحد معه فى معاركه ضد خصومه العقائديين فى الأحزاب ذات الهوية الراديكالية، وطنية وعربية بالضرورة، وتبرير سياسته التى قاتلوها ذات يوم، لا سيما ما يتصل بالصلح مع إسرائيل (التى لم تعد (العدو) والتعامل التجارى معها بمنطق الأمر الواقع. صارت العروبة ـ بما هى الوطنية طليعة أعداء النظام وموضع حربه المفتوحة... وقد انطبق هذا التوصيف على الشيوعيين والماركسيين عموما بعدما أنجزوا نقدهم الذاتى لانحرافهم فى الماضى وعادوا إلى الشارع الوطنى كمناضلين من أجل التغيير، التحاقا بالإرادة الشعبية.

 

فى مصر، على سبيل المثال، لم يتبق فى الشارع كتنظيمات علنية أو شبه علنية إلا الفرق الإسلامية المختلفة، منظمة أو شبه منظمة، وأبرزها الإخوان.. أما الأحزاب العقائدية ذات الشعار العربى فقد أحرقتها السلطة، فى العراق وفى سوريا، وفى اليمن. انتهى الشيوعيون مع سقوط حكمهم فى الجنوب بمجزرة ذهبت بالحزب جميعا، ثم دخل من تبقى منهم نعيم السلطة فى الشمال، جنبا إلى جنب مع القبائل وبعض الفرق الحزبية العربية. بالمقابل فان الحركة الناصرية لم تكن فى أى يوم حزبا. كانت تحزبا للقائد، ولنظامه استطرادا، فلما رحل جمال عبدالناصر انتبه الناصريون أنهم بلا رأس وبلا قيادة فعلية، خصوصا بعد انقلاب السادات فى 15 ايار (مايو) 1971.

 

وإذا كان يمكن اعتبار الناصرية فى مصر حزب الحاكم أيام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فإن الحركات التى تحمل هذه التسمية مباشرة أو بالتورية فى مختلف الأقطار العربية ولا سيما فى الشرق قد فقدت «المركز» كمصدر وموجه ومثال. وهكذا فقد تحولت إلى تجمعات محدودة التأثير، لا سيما وأن نظام الخلف فى مصر قد اندفع إلى أبعد مما قدرت الأحزاب والحركات السياسية وقوى النخبة... فقام أنور السادات بزيارة تتجاوز أى خيال إلى الكيان الإسرائيلى، ثم اندفع إلى معاهدة الصلح، وسط تهالك عربى عام، عكسه غياب الشارع وكذلك تواطؤ العديد من الأنظمة العربية بالصمت الذى يدل على الرضا أو بالمواجهة اللفظية عبر تكتلات مؤقتة بين معترضين (جبهة الصمود والتصدى) جمع الخوف أطرافها أكثر مما جمع بينهم الإصرار على مواصلة النضال ضد إسرائيل.

 

وفى مواجهة معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلى تصرفت أنظمة الرفض بعدائية استنفرت عصبية المصريين، إذ أحسوا أن «العقوبة» إنما تطالهم أكثر مما تطال النظام الذى خرق المحظورات وكسر المحرم. ثم كانت الحرب على العراق بعدما غزا صدام حسين الكويت، وانقسام العرب معسكرات، انضم بعضها إلى الجيوش الأمريكية وهى تقاتل لطرد الجيش العراقى من الكويت... وانتهت بمكافأة سياسية كانت محكومة بالفشل تمثلت فى مؤتمر مدريد للسلام الذى أريد منه تهدئة الغاضبين من الأنظمة العربية بمكافأة قد تختلف شكلا عن معاهدة الصلح المصرية ـ الإسرائيلية ولكنها لا تقدم حلا لجوهر المسألة، أى حقوق الفلسطينيين فى أرضهم.

 

وهكذا توفر المبرر لقيادة منظمة التحرير لكى تذهب إلى صلح منفرد آخر بالشروط الإسرائيلية عبر اتفاق أوسلو الذى يمكن تلخيصه بأنه قد أدخل «الثوار» السابقين إلى «سلطة» فى ظل الاحتلال الإسرائيلى، لا تقرب الفلسطينيين من حلم الدولة وإن كانت تباعد بينهم وبين سائر إخوانهم العرب... فمع الإقليميات والكيانيات تضيع وحدة المصير، بل يسعى كل نظام عربى إلى توفير الضمانات التى يحتاجها لاستمراره ولو على حساب وحدة الأمة أو أمنها القومى أو مصالحها المشتركة.

 

من مصر، إلى ليبيا، إلى تونس، إلى الجزائر فالمغرب، ومن فلسطين إلى سوريا يتبدى وكأن الشارع العربى لم يعد فيه من التنظيمات ذات الحضور الشعبى إلا الإسلاميون.

 

●●●

 

إن الأصوات ترتفع فى أنحاء عدة تنادى بحكم الشريعة.. وإن ظل الأعظم وعيا من القيادات الإسلامية ينادى بالجبهة الوطنية ويتعهد بعدم الانفراد بالسلطة، وإصراره على إشراك «سائر المناضلين» معه فى بناء العهد الجديد. وإذا كان الإسلاميون يتبدون موحدين فى تونس وفى ليبيا التى لم تعرف الحزبية إلا حديثا، فإنهم فى مصر تنظيمات عدة وإن ظل أبرزهم الإخوان، فى حين أن هذه الحركة التى كانت تسعى إلى الأممية تعانى من انشقاقات تضع بعضها فى مواجهة البعض الآخر، أما فى الأردن فهم يحاولون الحفاظ على وحدتهم عبر التوحد فى معارضة النظام ما عدا رأسه: الملك.

 

وباختصار، يبدو وكأن العروبة قد اندثرت مع الأنظمة التى تهاوت فسقطت أو هى على وشك السقوط، فى حين أن العروبة كانت الضحية الأعظم لتلك الأنظمة التى سرقت منها راياتها والشعارات وحكمت باسمها بعدما اضطهدت قياداتها بالسجن أو بالنفى أو بإغراءات السلطة. ربما لهذا تتبدى الأنظمة الملكية التى تتستر بالشعار الإسلامى وكأنها فى موقع المنتصر ورائد «الربيع العربى» وقاعدة إمداده بالمال والسلاح.. والدعم الدولى!. فاجتماعات المعارضين تتم فى العواصم المذهبة، وفيها تصاغ البيانات الثورية، وعبر اجتماعاتها فيها يتم استدراج التدويل وتشريعه وتمويله أيضا.

 

إنها فرصة نادرة لهذه الأنظمة المذهبة كى تخوض معركتها الأخيرة مع العروبة، التى كانت ترى فيها التهديد الجدى لعروشها، إذ هى تتيح لها الفرصة للظهور بمظهر راعى عملية التغيير وقائد حملة الاندفاع إلى الغد.. وماذا تريدون من العروبة أكثر من الكوفية والعقال المذهب والعباءة من حرير؟! أليس هذا هو بالضبط الربيع العربى: ولبس عباءة وتقرعينى؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved